عما هم عليه ويعدلوا إلى هذه الطريقة، فأما معنى: * (من أسلم وجهه لله) * فهو إسلام النفس لطاعة الله، وإنما خص الوجه بالذكر لوجوه. أحدها: لأنه أشرف الأعضاء من حيث أنه معدن الحواس والفكر والتخيل، فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى. وثانيها: أن الوجه قد يكنى به عن النفس، قال الله تعالى: * (كل شيء هالك إلا وجهه) *، (القصص: 88) * (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) * (الليل: 20). وثالثها: أن أعظم العبادات السجدة وهي إنما تحصل بالوجه فلا جرم خص الوجه بالذكر، ولهذا قال زيد بن عمرو بن نفيل.
وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الأرض تحمل صخرا ثقالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا زلالا فيكون المرء واهبا نفسه لهذا الأمر باذلالها، وذكر الوجه وأراد به نفس الشيء، وذلك لا يكون إلا بالانقياد والخضوع وإذلال النفس في طاعته وتجنب معاصيه، ومعنى (لله) أي: خالصا لله لا يشوبه شرك، فلا يكون عابدا مع الله غيره، أو معلقا رجاءه بغيره، وفي ذلك دلالة على أن المرء لا ينتفع بعمله إلا إذا فعله على وجه العبادة في الإخلاص والقربة.
أما قوله تعالى: * (وهو محسن) * أي: لا بد وأن يكون تواضعه لله بفعل حسن لا بفعل قبيح، فإن الهند يتواضعون لله لكن بأفعال قبيحة، وموضع قوله: * (وهو محسن) * موضع حال كقولك: جاء فلان وهو راكب، أي جاء فلان راكبا، ثم بين أن من جمع بين هذين فله أجره عند ربه، يعني به الثواب العظيم، ثم مع هذا النعيم لا يلحقه خوف ولا حزن، فأما الخوف فلا يكون إلا من المستقبل، وأما الحزن فقد يكون من الواقع والماضي كما قد يكون من المستقبل فنبه تعالى بالأمرين على نهاية السعادة لأن النعيم العظيم إذا دام وكثر وخلص من الخوف والحزن فلا يحزن على أمر فاته ولا على أمر يناله ولا يخاف انقطاع ما هو فيه وتغيره فقد بلغ النهاية وفي ذلك ترغيب في هذه الطريقة وتحذير من خلافها الذي هو طريقة الكفار المذكورين من قبل، واعلم أنه تعالى وحد أولا ثم جمع، ومثله قوله: * (وكم من ملك في السماوات) * (النجم: 26) ثم قال: * (شفاعتهم) * وقوله: * (ومنهم من يستمع إليك) * (الأنعام: 25) وقال في موضع آخر: * (يستمعون إليك) * (يونس: 42) (الإسراء: 47) وقال: * (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك) * (محمد: 16) ولم يقل: خرج، واعلم أنا لما فسرنا قوله: * (من أسلم وجهه لله) * بالإخلاص فلنذكر ههنا حقيقة الإخلاص وذلك لا يمكن بيانه إلا في مسائل:
المسألة الأولى: في فضل النية قال عليه الصلاة والسلام: " إنما الأعمال بالنيات "، وقال: " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم " وفي الإسرائيليات أن