الفصل الرابع في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال على وجود الصانع وهي من وجوه. أحدها: النظر إلى مقادير هذه الأفلاك، فإنها مع اشتراكها في الطبيعة الفلكية، اختص كل واحد منها بمقدار خاص، مع أنه لا يمتنع في العقل وقوعها على أزيد من ذلك المقدار أو أنقص منه بذرة، فلما قضى صريح العقل بأن المقادير بأسرها على السوية، قضى بافتقارها في مقاديرها إلى مخصص مدبر. وثانيها: النظر إلى أحيازها، فإن كل فلك مماس بمحدبه فلكا آخر فوقه وبمقعره فلكا آخر تحته، ثم ذلك الفلك إما أن يكون متشابه الأجزاء أو ينتهي بالآخرة إلى جسم متشابه الأجزاء، وذلك الجسم المتشابه الأجزاء لا بد وأن تكون طبيعة كل واحد من طرفيه مساوية لطبيعة طرفه الآخر، فكما صح على محدبة أن يلقى جسما وجب أن يصح على مقعره أن يلقى ذلك الجسم، ومتى كان كذلك صح أن العالي يمكن وقوعه سافلا، والسافل يمكن وقوعه عاليا، ومتى كان كذلك كان اختصاص كل واحد منها بحيزه المعين أمرا جائزا يقضي العقل بافتقاره إلى المقتضى. وثالثها: أن كل كوكب حصل في مقعره اختص به أحد جوانب ذلك الفلك دون سائر الجوانب، ثم إن ذلك الموضع المنتفي من ذلك الفلك مساو لسائر جوانبه، لأن الفلك عنده جسم متشابه الأجزاء، فاختصاص ذلك المقعر بذلك الكوكب دون سائر الجوانب يكون أمرا ممكنا جائزا فيقضي العقل بافتقاره إلى المخصص. ورابعها: أن كل كرة فإنها تدور على قطبين معينين، وإذا كان الفلك متشابه الأجزاء كان جميع النقط المفترضة عليه متساوية، وجميع الدوائر المفترضة عليه أيضا متساوية، فاختصاص نقطتين معينتين بالقطبية دون سائر النقط مع استوائها في الطبيعة يكون أمرا جائرا، فيقضي العقل بافتقاره إلى المقتضى، وهكذا القول في تعين كل دائرة معينة من دوائرها بأن تكون منطقة. وخامسها: أن الأجرام الفلكية مع تشابهها في الطبيعة الفلكية كل واحد منها مختص بنوع معين من الحركة في البطء والسرعة، فانظر إلى الفلك الأعظم مع نهاية اتساعه وعظمه ثم إنه يدور دورة تامة في اليوم والليلة، والفلك الثامن الذي هو أصغر منه لا يدور الدورة التامة إلا في ستة وثلاثين سنة على ما هو قول الجمهور، ثم إن الفلك السابع الذي تحته يدور في ثلاثين سنة، فاختصاص الأعظم بمزيد السرعة، والأصغر بمزيد البطء مع أنه على خلاف حكم العقل فإنه كان ينبغي أن يكون الأوسع أبطأ حركة لعظم مداره، والأصغر أسرع استدارة لصغر مداره ليس إلا لمخصص، والعقل يقضي بأن كل واحد منها إنما اختص بما هو عليه بتقدير
(٢١١)