فعف عن أسرارها بعد العسق * ولم يضعها بين فرك وعشق يعني بذلك: عف عن غشيانها بعد طول ملازمته ذلك. ومنه قول الحطيئة:
ويحرم سر جارتهم عليهم * ويأكل جارهم أنف القصاع وكذلك يقال لكل ما أخفاه المرء في نفسه سر، ويقال: هو في سر قومه، يعني في خيارهم وشرفهم. فلما كان السر إنما يوجه في كلامها إلى أحد هذه الأوجه الثلاثة، وكان معلوما أن أحدهن غير معني به قوله: ولكن لا تواعدوهن سرا وهو السر الذي هو معنى الخيار والشرف، فلم يبق إلا الوجهان الآخران وهو السر الذي بمعنى ما أخفته نفس المواعدين المتواعدين، والسر الذي بمعنى الغشيان والجماع. فلما لم يبق غيرهما، وكانت الدلالة واضحة على أن أحدهما غير معني به صح أن الآخر هو المعني به.
فإن قال: فما الدلالة على أن مواعدة القول سرا غير معني به على ما قال من قال: إن معنى ذلك: أخذ الرجل ميثاق المرأة أن لا تنكح غيره، أو على ما قال من قال:
قول الرجل لها: لا تسبقيني بنفسك؟ قيل: لان السر إذا كان بالمعنى الذي تأوله قائلو ذلك، فلن يخلو ذلك السر من أن يكون هو مواعدة الرجل المرأة ومسألته إياها أن لا تنكح غيره، أو يكون هو النكاح الذي سألها أن تجيبه إليه بعد انقضاء عدتها وبعد عقده له دون الناس غيره. فإن كان السر الذي نهى الله الرجل أن يواعد المعتدات هو أخذ العهد عليهن أن لا ينكحن غيره، فقد بطل أن يكون السر معناه ما أخفى من الأمور في النفوس، أو نطق به فلم يطلع عليه، وصارت العلانية من الامر سرا، وذلك خلاف المعقول في لغة من نزل القرآن بلسانه، إلا أن يقول قائل هذه المقالة: إنما نهى الله الرجال عن مواعدتهن ذلك سرا بينهم وبينهن، لا أن نفس الكلام بذلك وإن كان قد أعلن سر. فيقال له: إن قال ذلك فقد يجب أن تكون جائزة مواعدتهن النكاح والخطبة صريحا علانية، إذ كان المنهي عنه من المواعدة إنما هو ما كان منها سرا. فإن قال إن ذلك كذلك خرج من قول جميع الأمة على أن ذلك ليس من قيل أحد ممن تأول الآية أن السر ها هنا بمعنى المعاهدة أن لا تنكح غير المعاهد. وإن قال: ذلك غير جائز. قيل له: فقد بطل أن يكون معنى ذلك: إسرار الرجل