عودته إلى وطنه:
وفي هذه الفترة أحس (الشهيد) وهو الشاب الطموح أنه لم يعد بحاجة إلى غيره في الدراسة والتفكير، وأن البقاء في (مصر) أو في (دمشق) لا يزيده شيئا على ما عنده، وأنه قد تجاوز مرحلة الإعداد الفكري، وأحاط بما لدى المذاهب الإسلامية من ثقافة وفكر وألم بطرف من فنون العلم، وانتقل من مرحلة التلقي إلى مرحلة التأمل الذاتي والاستيطان، فغادر (مصر) إلى (الحجاز) في 17 شوال سنة 934، فكانت مدة إقامته في (مصر) ثمانية عشر شهرا.
وبعد قضاء الحج والعمرة رجع إلى مسقط رأسه ووطنه الأول (جبع) حيث كانت تسبقه شهرته وصيته وفضله، ويتلهف الناس لقدومه.
قال ابن العودي: " وكان قدومه إلى البلاد كرحمة نازلة، أو غيوث هاطلة، أحيى بعلومه نفوسا أماتها الجهل، وازدحم عليه أولو العلم والفضل، كأن أبواب العلم كانت مقفلة ففتحت، وسوقه كانت كاسدة فربحت، وأشرقت أنواره على ظلمة الجهالة فاستنارت، وابتهجت قلوب أهل المعارف وأضاءت، أشهر ما اجتهد في تحصيله منه وأشاع، وظهر من فوائده ما لم يطرق الأسماع، رتب الطلاب ترتيب الرجال، وأوضح السبيل لمن طلب ".
وكذلك كانت عودة (الشهيد) إلى وطنه مبعث حياة جديدة في هذا القطر، فازدحم عليه الناس " وتوجه إليه طلاب المعرفة من مختلف الأقطار المجاورة، والتف حوله الفضلاء والعلماء، وأخذ بالتدريس