وإنما صحت البراءة على الانكار لأنها ليست بمعاوضه، والذي جعل المالكية والحنفية والحنابلة يجيزون الصلح مع الانكار. ولا يفرقون بين الابراء والشرط قاعدتهم في أن الصلح يبيح لكل واحد منهما ما كان محرما عليه قبله، كالصلح بمعنى الهبة، فإنه يحل للموهوب له ما كان حراما عليه، والاسقاط يحل له ترك أداء ما كان واجبا عليه، وقالوا: ان هذا لا يدخل في حديث " الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا " لان الصلح الفاسد لا يحل الحرام وإنما معناه ما يتوصل به إلى تناول المحرم مع بقائه على تحريمه، كما لو صالحه على استرقاق حر، أو احلال بضع محرم، أو صالحه بخمر أو خنزير، وليس ما نحن فيه كذلك.
قلت: فان ادعى عليه ألفا في ذمته فأنكره عنها ثم صالحه على بعضها وقبض ذلك وأبرأه عن الحق الذي عليه. قال الشافعي رضي الله عنه: فالصلح باطل والابراء لا يلزم، فأما الصلح فيبطل لأنه صلح على إنكار وعلى المصالح رد ما أخذه، وأما البراءة فلا تلزمه لأنه إنما أبرأه براءة قبض، واستيفاء وهو أن يسلم له ما أحذه، فإذا لم يسلم له ذلك لم تلزمه البراءة.
هذا إذا لم يعلم المدعى بفساد الصلح، وأما إذا علم بفساد الصلح فأبرأ صحت براءته وهذا كما تقول في رجل اشترى عبدا شراء فاسدا. فقال البائع للمشترى أعتق هذا العبد، ولم يعلم البائع بفساد البيع فأعتقه - قال الشيخ أبو حامد: لم يصح العتق، لان البائع لم يأمره باعتاقه عن نفسه، وإنما أمره أن يعتقه يظن أنه قد ملكه بالشراء، وان علم البائع بفساد البيع فأمر المشترى باعتاقه فأعتقه صح العتق، وان عليه ألفا في ذمته فأقر له بها فصالحه عنها صلح حطيطة، وأبرأه على خمسمائة فان قبض منها خمسمائة، وأبرأه عن الباقي ثم خرجت الخمسمائة التي قبض مستحقة - قال الشيخ أبو حامد: فإنه يرجع عليه بخمسمائة التي أخذها والابراء صحيح، لأنه لم يبرئه ليسلم له ما قبض بل أبرأه عن حق هو مقر له به والابراء صادف حقه المقر به فنفذ ذلك وليس يتعلق بسلامة ما قبضه وعدم سلامته (فرع) وإذا ادعى عينا فصالحه منها على عوض ثم اختلفا فقال المدعى:
إنما صالحت منها على الانكار فالصلح باطل، ولى الرجوع إلى أصل الخصومة.