المتقنين فنظر مذاهبهم وسبرها وتحققها وخبرها فلخص منها طريقة جامعة للكتاب والسنة والاجماع والقياس ولم يقتصر على بعض ذلك وتفرغ للاختيار والترجيح والتكميل والتنقيح مع كمال قوته وعلو همته وبراعته في جميع أنواع الفنون واضطلاعه منها أشد اصطلاح وهو المبرز في الاستنباط من الكتاب والسنة البارع في معرفة الناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين والخاص والعام وغيرها من تقاسيم الخطاب فلم يسبقه أحد إلى فتح هذا الباب لأنه أول من صنف أصول الفقه بلا خلاف ولا ارتياب وهو الذي لا يساوى بل لا يدانى في معرفة كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد بعضها إلى بعض وهو الإمام الحجة في لغة العرب ونحوهم فقد اشتغل في العربية عشرين سنة مع بلاغته وفصاحته ومع أنه عربي اللسان والدار والعصر وبها يعرف الكتاب والسنة: وهو الذي قلد المنن الجسيمة جميع أهل الآثار وحملة الأحاديث ونقلة الاخبار بتوقيفه إياهم على معاني السنن وتنبيههم وقذفه بالحق على باطن مخالفي السنن وتمويههم فنعشهم بعد أن كانوا خاملين وظهرت كلمتهم على جميع المخالفين ودمغوهم بواضحات البراهين حتى ظلت أعناقهم لها خاضعين * قال محمد بن الحسن رحمه الله ان تكلم أصحاب الحديث يوما ما فبلسان الشافعي يعنى لما وضع من كتبه * وقال الحسن بن محمد الزعفراني كان أصحاب الحديث رقودا فأيقظهم الشافعي فتيقظوا * وقال أحمد بن حنبل رحمه الله ما أحد مس بيده محبرة ولا قلما الا وللشافعي في رقبته منة فهذا قول امام أصحاب الحديث وأهله ومن لا يختلفون في ورعه وفضله * ومن ذلك أن الشافعي رحمه الله مكنه الله من أنواع العلوم حتى عجز لديه المناظرون من الطوائف وأصحاب الفنون واعترف بتبريزه وأذعن الموافقون والمخالفون في المحافل المشهورة الكبيرة المشتملة على أئمة عصره في البلدان وهذه المناظرات معروفة موجودة في كتبه رضي الله عنه وفي كتب الأئمة المتقدمين والمتأخرين وفي كتاب الأم للشافعي رحمه الله من هذه المناظرات جمل من العجائب والآيات * والنفائس الجليلات * والقواعد المستفادات * وكم من مناظرة وقاعدة فيه يقطع كل من وقف عليها وأنصف وصدق انه لم يسبق إليها * ومن ذلك أنه تصدر في عصر الأئمة المبرزين للافتاء والتدريس والتصنيف وقد أمره بذلك شيخه أبو خالد مسلم بن خالد الزنجي امام أهل مكة ومفتيها وقال له أفت يا أبا عبد الله فقد والله آن لك ان تفتى وكان للشافعي إذ ذاك خمس عشرة سنة: وأقاويل أهل عصره في هذا كثيرة مشهورة واخذ عن الشافعي العلم في سن الحداثة مع توفر العلماء في ذلك العصر وهذا من الدلائل الصريحة لعظم جلالته وعلو مرتبته وهذا كله من المشهور المعروف في كتب مناقبه وغيرها * ومن ذلك شدة اجتهاده في نصرة الحديث واتباع السنة وجمعه في مذهبه بين أطراف الأدلة مع الاتقان والتحقيق والغوص التام على المعاني والتدقيق: حتى لقب حين قدم العراق بناصر الحديث وغلب في عرف العلماء المتقدمين والفقهاء الخراسانيين على متبعي مذهبه لقب أصحاب الحديث في القديم والحديث:
وقد روينا عن الامام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة المعروف بامام الأئمة وكان من حفظ الحديث ومعرفة السنة بالغاية العالية انه سئل هل تعلم سنة صحيحة لم يودعها الشافعي كتبه قال لا: ومع هذا فاحتاط الشافعي رحمه الله لكون الإحاطة ممتنعة على البشر فقال ما قد ثبت عنه رضى عنه من أوجه من وصيته