البشر دونما نظر في نواميس الوجود الكبرى، وهم يحسبون أنها قواعد تهذيبية لمجرد اتفاقهم عليها. وبذلك أيضا ينتفي من التهذيب السليم كل ما يخالف روح الحق وروح الخير وروح الجمال. والتهذيب على غير أصوله الكبرى تواطؤ سطحي على الكذب القبيح. وهو على أصوله البعيدة إحساس عميق بالصدق الجميل، مما يجعله اندماجا خالصا بثورية الحياة الجارية الفاتحة.
لذلك كان مدار التهذيب عند ابن أبي طالب، حماية الإنسان من الكذب، أو قل حمايته وهو حي من برودة الموت!
وحماية الإنسان من الكذب تستوجب أول الأمر تعظيم الصدق نصا مباشرا في كل حال. وإبرازه ضرورة حياتية لا مفر منها لكل حي، وتوجيه الناس نحوه أفرادا يخلون إلى أنفسهم أو يعيشون جماعات. وفي هذا الباب يبرز علي بن أبي طالب عملاقا يرى ما لا يراه الآخرون، ويشير إلى ما يجهلون، ويعمل ما لا يستطيعونه الآن ويريدهم أن يستطيعوه.
يقول علي: (إياكم وتهزيع الأخلاق وتصريفها واجعلوا اللسان واحدا). وتهزيع الشئ تكسيره. وتصريفه قلبه من حال إلى حال. يريد بذلك تذكير الصادق بالخطر الذي يتعرض له صدقه إن هو كذب ولو مرة واحدة. فالصادق إذا كذب مرة انكسر صدقه كما ينكسر أي شئ وقع على الأرض مرة واحدة. وكذلك النفاق والتلون فهما لونان من ألوان الكذب. ويقول أيضا: (وكونوا قوما صادقين. واعملوا في غير رياء. وأعز الصادق المحق وأذل الكاذب المبطل. واصدقوا الحديث وأدوا الأمانة وأوفوا بالعهد.
من طلب عزا بباطل أورثه الله ذلا بحق. إن كنت صادقا كافيناك وإن كنت كاذبا عاقبناك.
إن من عدم الصدق في منطقه فقد فجع بأكرم أخلاقه. ما السيف الصارم في كف الشجاع بأعز له من الصدق). وما هذه الآيات في الصدق إلا نماذج من مئات أخر يأت يؤلف ابن أبي طالب بها أساس دستوره الأخلاقي العظيم.
ثم إليك هذه الآية التي يكثر في نسجها نصيب العقل النافذ الواعي. يقول: (الكذب يهدي إلى الفجور). ولسنا في حاجة إلى الإسهاب في إظهار ما تخفي هذه الكلمة من حقيقة تجر وراءها سلسلة لا تنتهي من الحقائق. كما أننا لسنا في حاجة إلى الإسهاب في تصوير ما تشير إليه من حقيقة نفسية لا تزيدها الأيام إلا رسوخا. ومثل هذه الآية آيات، منها:
(لا يصلح الكذب في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا يفي له!) أما المعنى