على القارئ إلا أن يطلع على الروائع التي أخذناها من أدب ابن أبي طالب في هذا الكتاب حتى يثق بأن المجلدات قد تضيق عن دراسة مذهبه في الأخلاق وتهذيب النفس، وعما تستوجبه هذه المختارات من شرح وتعليق.
ويكفي أن نشير إلى أن هذه الروائع العلوية من أشرف ما في تراث الإنسان، ومن أعظمه اتساعا عمقا.
على أنه لا بد لنا الآن من التلميح إلى آية الآيات في تهذيب العظيم بوصفه إحساسا عميقا بقيمة الحياة وكرامة النفس وكمال الوجود. وإن نفرا قليلا من المتفوقين كبوذا والمسيح وبتهوفن وأشباههم هم الذين أدركوا أن آية التهذيب أنما تكون في الدرجة الأولى بين الإنسان ونفسه. ولا تكون بين الإنسان وما هو خارج عنه إلا انبثاقا بديهيا طبيعيا عن الحالة الأولى. وقد أدرك ابن أبي طالب هذه الحقيقة إدراكا قويا واضحا لا غموض فيه ولا إيهام. وعبر عنها تعبيرا جامعا. يقول علي في ضرورة احترام الإنسان نفسه وأعماله دون أن يكون عليه رقيب: (اتقوا المعاصي في الخلوات). ويقول في المعنى ذاته: (إياك وكل عمل في السر يستحي منه في العلانية. وإياك وكل عمل إذا ذكر لصاحبه أنكره).
وإليك ما يقوله في الرابطة بين السر والعلانية، أو بين ما أسميناه (آية التهذيب) وما أسميناه (انبثاقا) عنها: (من أصلح سريرته أصلح الله علانيته).
ومن بدائع حكيم الصين كنفوشيوس في تهذيب النفس هذه الكلمة، (كل على مائدتك كأنك تأكل على مائدة ملك). وجلي أنه يريد منك أن تحترم نفسك احتراما مطلقا غير مرهون بظرف أو مناسبة، حتى ليجدر بك أن تتصرف حين تخلو إلى نفسك كما تتصرف وأنت بين يدي ملك. ومثل هذا المعنى يقوله علي بن أبي طالب على هيئة جديدة: (ليتزين أحدكم لأخيه كما يتزين للغريب الذي يحب أن يراه في أحسن الهيئة!).
وهو يريدك في كل حال أن تعظ أخاك لتعينه في الانتقال من حسن إلى أحسن في الخلق والذوق والمسك. ولكن روح التهذيب الأصيل يأبى عليك أن تجرحه أو تؤذيه بنصحه علنا، بل إن هذا الروح يقضي عليك أن تكون لينا رفيقا فلا تنصح إلا خفية ولا تعظ إلا سرا. يقول علي: (من وعظ أخاه سرا فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه).