الذي يشير إليه الشق الأول من هذه الآية العلوية، فقد كان موضوع جدل كثير بين فلاسفة الأخلاق ولا سيما الأوربيين منهم. والواقع أن هؤلاء أجمعوا على أن الصدق حياة والكذب موت. غير أنهم اختلفوا في هل يجوز الكذب في حالة الضرورة أم لا؟
فمنهم الموافق ومنهم المخالف. ولكل من الفريقين حجته.
أما علي بن أبي طالب، فيقف من هذا الموضوع الذي تثيره عبارته، موقفا حاسما ينسجم مع مذهبه العظيم في الأخلاق، هذا المذهب الذي نعود فنذكر القارئ بأنه منبثق عما أحسه علي ووعاه من عدالة الكون الشاملة، فيقول غير متردد: (علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك، وأن لا يكون في حديثك فضل عن عملك!
ومن الواضح أن ابن أبي طالب لا يرى أن في الكذب ما ينفع وأن في الصدق ما قد يضر، فيتحدث إلى الناس في نطاق من مدى تصورهم ليبلغ كلامه منهم مبلغا ذكيا.
وتأكيدا لذلك يقول: (عليك بالصدق في جميع أمورك). ويقول أيضا: (جانبوا الكذب فإن الصادق على شفا منجاة وكرامة، والكاذب على شفا مهواة وهلكة!) أما المعنى الذي يذكره الشق الثاني من العبارة: (ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا يفي له) فالتفاتة عظيمة إلى حقيقة تربوية تقررها الحياة نفسها، كما تقررها الأصول النفسية التي ينشأ عليها المرء ويتدرج. ويكفيك منها هذه الإشارة إلى أن الطفل يتربى بالمثل لا بالنصيحة.
وهذا الرأي هو محور فلسفة جان جاك روسو التربوية!
والصدق مع الحياة يستلزم البساطة وينفر من التعقيد، لأن كل حقيقة بسيطة بمقدار ما الشمس ساطعة والليل بهيم. ودلالة على هذه البساطة الدافئة لأنها انبثاق حي وعفوي عن الصدق، نقول إن ابن أبي طالب كره التكبر لأنه ليس طبعا صادقا بل الكبر هو الصدق، فإذا بالمتكبر في رأيه شخص يتعالى على جبلته ذاتها. يقول: (لا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه). وهو في الوقت نفسه يكره التواضع إذا كان مقصودا فإنه عند ذاك لا يكون طبعا صادقا بل الشعور بأن الإنسان مساو لكل إنسان في كرامته هو الصدق. لذلك يخاطب من يقوده تواضعه إلى أن يذل نفسه، قائلا له: (إياك أن تتذلل للناس). ثم يردف ذلك بقول أروع: (ولا تصحبن في سفر من لا يرى لك من الفضل عليه مثل ما ترى له من الفضل عليك!)