وهدفا. ورأى أن لكل من الكائنات وظيفة يقوم بها، وأن على كل جارحة من جوارح الإنسان فريضة يحتج بها الكون العادل عليه، ويسأله عنها، ويحاسبه عليها. وبناء على هذا الواقع، تكون أشياء الوجود متساوية بحكم وجودها. أما الصغيرة والكبيرة فشبيهتان بهذا المقياس. يقول علي: (ويحاسبك على الصغيرة قبل الكبيرة) وإنما قال ذلك لأن الأكثرية من الناس لا يأبهون ل (الصغيرة)، فإذا به يلفت أنظارهم إلى هذه الصغيرة بتقديمها على الكبيرة في ما تستلزم من عقاب أو ثواب، لكي يطمئن إلى حدوث عملية التسوية بينهما في الأذهان والقلوب.
أما إذا احتج الكون على الإنسان بما فرضه على جوارحه، وسأله عنه، وحاسبه على الصغيرة والكبيرة، وجازاه بما عمل خيرا كان أو شرا، فليس من الضروري في ملاحظة علي وفي نهجه أن تتم عملية الاحتجاج والمحاسبة والمجازاة هذه خارج نطاق الإنسان نفسه، وإن هذه العملية المركبة، الواحدة على ما فيها من تركيب، لتتم أبدا - كما يلحظ علي - في حدود الكائن أيا كان. وهكذا تتم في ما يتعلق بالانسان وهو أحد الكائنات. يقول علي:
(إن عليكم رصدا من أنفسكم وعيونا من جوارحكم). والرصد الرقيب. وهذا الرقيب لا يألو جهدا في أن يرى ويسجل ويعاقب أو يثيب.
وفي لحظات فذة من تألق العقل المكتشف والفكر النافذ، تبدو لعيني ابن أبي طالب ألوان ساطعة من هذا الوجه من وجوه العدالة الكونية، لا يسعك إزاءها إلا أن تعجب بهذا العقل وهذا الفكر.
أفلا ينطق ابن أبي طالب بلسان علماء العصر الحديث كما ينطق بلسان هذه العدالة نفسها ساعة يقرر هذه الحقيقة: (من أساء خلقه عذب نفسه!) ثم، ألا ينطق بهذين اللسانين معا إذ يقول: (يكاد المريب يقول: (خذوني) وإذ يقول أيضا: (فأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقك رغب فإنك تعتاض بما ابتذلت من نفسك!).
ومثل هذه الآيات كثير كثير. ومنها هذه الروائع: (موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل) و (لا مروءة لكذوب ولا راحة مع حسد، ولا سؤدد مع انتقام، ولا صواب مع ترك المشورة). و (إذا كانت في رجل خلة رائقة فانتظروا أخواتها!).