شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣١ - الصفحة ٥٣٠
وإن أفادوا كثيرا وباء هو بالخسار.
أصاب المقتل من عدوه مرات فلم يهتبل الفرصة السانحة بين يدية، لأنه أراد أن يغلب عدوه غلبة الرجل الشجاع الشريف، ولم يرد أن يغلبه أو يقتص من كيفما كان سبيل الغلب والقاص.
قال بعض من شهدوا معركة صفين: لما قدمنا على معاوية وأهل الشام بصفين وجدناهم قد نزلوا منزلا اختاروه مستويا بساطا واسعا وأخذوا الشريعة - أي مورد الماء - فهي في أيديهم.. وقد أجمعوا على أن يمنعونا الماء. ففزعنا إلى أمير المؤمنين فخبرناه بذلك، فدعا صعصعة بن صوحان فقال له: إئت معاوية وقل له إنا سرنا مسيرنا هذا إليكم ونحن نكره قتالكم قبل الاعذار إليكم، وإنك قدمت إلينا خيلك ورجلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك وبدأتنا، ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ونحتج عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها إذ حلتم بين الناس وبين الماء، والناس غير منتهين أو يشربوا، فابعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء ويكفوا حتى ننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له وقدمتم له...
ثم قال راوي الخبر ما معناه: إن معاوية سأل أصحابه فأشاروا عليه أن يحول بين علي وبين المورد غير حافل بدعوته إلى السلم ولا بدعوته إلى المفاوضة في أمر الخلاف، فأنفذ معاوية مددا إلى حراس المورد يحمونه ويصدون من يقترب منه، ثم كان بين العسكرين تراشق بالنيل فطعن بالرماح فضرب بالسيوف حتى اقتحم أصحاب علي طريق الماء وملكوه، وهنا الفرصة الكبرى لو شاء علي أن يهتبلها، وأن يغلب أعداءه بالظمأ كما أرادوا أن يغلبوه به قبيل ساعة.. وقد جاء أصحابه يقولون: والله لا نسقيهموه، فكأنما كان هو سفير معاوية وجنده إليهم يتشفع لهم ويستلين قلوبهم من أجلهم، وصاح بهم: " خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم وخلوا عنهم، فإن الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم ".
ولاحت له فرصة هذه الفرصة في حرب أهل البصرة، فأبى أن يهتبلها وأغضب أعوانه إنصافا لأعدائه، لأنه نهاهم أن يسلبوا المال ويستبيحوا السبي وهو في رأيهم حلال، قالوا: أتراه يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم؟ فقال: " إنما القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا ونحن منه، ومن لج حتى يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر ".
سن لهم سنة الفروسية أو سنة النخوة حين أوصاهم ألا يقتلوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح ولا يكشفوا سترا ولا يمدوا يدا إلى مال، ومن الفرص التي أبت عليه النخوة أن يهتبلها فرصة عمرو بن العاص وهو ملقى على الأرض مكشوف السوأة لا يبالي أن يدفع عنه الموت بما حضره من وقاء.
فصدف بوجهه عنه آنفا أن يصرع رجلا يخافالموت هذه المخافة التي لا يرضاها من منازله في مجال صراع. ولو غير علي أتيح له أن يقضي على عمرو لعلم أنه قاض على جرثومة عداء ودهاء فلم يبال أن يصيبه حيث ظفر به، ولا جناح عليه.
لقد كان رضاه من الآداب في الحرب والسلم رضا الفروسية العزيزة من جميع آدابها ومأثوراتها.
فكان يعرف العدو عدوا حيثما رفع السيف لقتاله وكنه لا يعادي امرأة ولا رجلا موليا ولا جريحا عاجزا عن نضال، ولا ميتا ذهبت حياته ولو ذهبت في سبيل حربه بل لعله يذكر له ماضيه يومئذ فيقف على قبره ليبكه ويصلي عليه.
وهذه الفروسية هي التي بغضت إليه أن ينال أعداءه بالسباب وليس من دأب الفارس أن ينال أعداءه بغير الحسام.
فلما سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حروبهم بصفين قال لهم: " إني أكره أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به ".
وربما شذ عن سنته هذه في بعض الأحايين، فإذا به لا يشذ عنها إلا كما يشذ الفرسان حين تغلبهم بوادر اللسان، فندر بين رجال السيف من يسمع الكمة المغضبة فلا ينطق لسانه بكلمة عوراء يجاري بها غضبه الذي طبع على إبدائه ولم يطبع على كتمانه.
ومن قبيل هذا كلمات قالها علي في ابن العاص وفي معاوية وفي الأشعث بن قيس وغير هؤلاء، ولكنه لم يجعلها ديدنا له كما سبوه على المنابر وأشاعوا مذمته بين أهل الأمصار.
شغب عليه الأشعث بن قيس ومرد عليه الجند وأفشى بين أنصاره الفتنة وقاطعه مرة وهو يخطب على منبر الكوفة فأغضبه وهاج غيظه فبدره بقوله: " عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين: حائك بن حائك، منافق ابن كافر: والله لقد أسرك الكفر مرة الإسلام أخرى، فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك، وإن امرء ولي على قومه السيف وساق إليهم الحتف لحري أن يمقته الأقرب ولا يأمنه الأبعد ".
وطفق ابن العاص بنعته بين أهل الشام بالهزل والدعابة ويأمر بسبه على المنابر حتى وجب رده وإدحاض زعمه، فقال رضي الله عنه في بعض خطبه: عجبا لابن النابغة!
يزعم لأهل الشام أن في دعابة وأني امرؤ تلعابة: أعانس وأمارس لقد قال باطلا آثما، أما - وشر القول الكذب - إنه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف، ويسأل فيبخل، ويخون العهد ويقطع الإل، فإذا كان عند الحرب فأي زاجر وآمر هو ما لم تأخذ السيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القوم سبته، أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة، إنه لم يبايع معاوية حتى شرط أن يؤتيه آتية ويرضخ له على ترك الدين رضيخة.
وكذلك كان يجبه معاوية وغيره بنظائر هذه الكلمات حين يجترؤن عليه بما يغض من حقه ويقدح في دعوته، فلا يشذ عن ديدن الفرسان في روية فكره ولا في بوادر لسانه، ولكن الفلتات من هذا القبيل الشئ واتخاذ السباب صناعة دائمة وسلاحا مشهورا وسبيلا إلى القول الباطل شئ آخر.
ولقد كانت للإمام رضي الله عنه شواغل أخرى غير الفروسية تجري في مجراها حينا وتبدو غريبة عنها حينا آخر في عرف بعض الناقدين، ومنها التفقه والنزوع إلى " التصوف " واستنباط حقائق الأشياء.
فهذه في عرف بعض الناقدين ليست من مزاج الفروسية على ظاهر ما قدروه ولكن ما التصرف أو التجرد للحقيقة؟ أليس هو في معدنه جهادا في الحق أو جهادا في الله أليست طبيعة الجهاد وطبيعة الفروسية من معدن واحد؟ ألم نعهد في كل ملة وكل زمان فئات من الناس يجاهدون لأنهم متدينون متنطسون، أو يتدينون ويتنطسون لأنهم مجاهدون؟ فالإمام علي رضي الله عنه فارس لا يخرجه من الفروسية فقه الدين بل هو أحرى أن يسلكه فيها، ولا يخرجه من الفروسية بعض المقال في خصومه بل هي بوادر الفرسان بعينها، ولا تزال آداب الفروسية بشتى عوارضها هي المفتاح الذي يدار في كل باب من أبواب هذه النفس، فإذا هو منكشف للناظر عما يليه.