أمير المؤمنين أيده الله تعالى وكريم عنصره وطيب جوهره، شاد له ما شرف بناؤه وزهر بهاؤه، فلم يأل أن زاد بناء ونماء وعلوا وبهاء باللين في رعيته، والعدل في سيرته، والبذل في فضله، والتوفيق من عدله، والكرم من شيمته، والصدق من ضريبته، والحق من رأيه، والمن من آلائه، والعفو عن العثرة والحلم بعد البدرة، ثم إنني كنت أيد الله أمير المؤمنين تهت في حيرة، وتحيرت في غمرة، زين لي خطلها، واستفزني أملها (1)، وعشيتني أمورها، وغرتني غرورها، أسار بي غاويها، وهتف بي داعيها، فأجبت إلى الضلالة، وتسكعت في الجهالة، حيران حائرا عن الحق، نافرا قائلا بغير الصدق، ملتبا بالعمر، خابطا في الظلمة، جائزا عن الرشدة، متأملا بغير فهم، ناظرا إلى غير علم، حتى إذا انجلت عني غياهبها بعد اسمدرار ناظري إليها، وانقشع لي سحابها عن طمع رجائي فيها، سئمت حياء العدى من أمير المؤمنين الذي أثبت الله به وبآبائه أركان الاسلام، وقوم به وبهم دعائم الأيام، فصادفت عز وجوده على منهمره، وثمار أفنان رأفته على مهتدله، وفي ذلك أقول:
ما أبالي إذا لقيت هشاما * وبنيه قبيلة والدبيرا البسوا العدل والسكنية * والحلم ثيابا فلن أراها نحورا قال: فتبسم هشام لفصاحة الكميت ولما أتى به في ذلك الوقت من هذا الكلام. ثم قال: كيف أمنتني يا كميت وقد قلت ما قلت؟ فقال: إن شئتم أمير المؤمنين أيده الله أمنتني من سطوته، ورفع من قدري ما كان خاملا بمشافهته، وربط من ج أشي ما كان منحلا بمخاطبته، وكرمه أطمعني في عفوه وأطلق لساني بعد كعمه، ثم قال: عائب (2) ومذنب تاب فمحا باليقين (3) ذنبه وبالصدق كذبه. فالتوبة قبل الحوبة، والصفح بعد القدرة. قال هشام: وما الذي (4) أفلتك من مخالب القسري وقد أسهرت ليله وأطلت فكره؟ فقال: يا أمير المؤمنين! أفلتني منه صدق النية في التوبة، فتاب عن صفاحي مناسمه، أو غشي عن عيون حرسه حتى طلقت من وثاقه. وخرجت خروج القدح من محبسي على رغم أنفه، قال هشام: فما الذي