واجتمعت عنده الأطباء فلم يعف عنه شيئا، قال: فأرسل الرشيد إلى طبيب من أهل فارس يقال له الأسقف (1)، فأشخص إليه والرشيد يومئذ في قصر حميد الطوسي (2)، فقال: انزلوا هذا الطبيب حتى يستريح، فإذا كان غداة غد فأتوني به! قال: فأنزل الطبيب، وأمر الرشيد بقوارير فيها أبوال كثيرة مختلفة فجمعت، فلما أن كان من الغد أرسل إلى الطبيب فدعاه، ثم أمر أن تعرض القوارير على الطبيب فعرضت عليه، فكان يصف لكل قارورة وصاحبها بما يعلم من علته، حتى إذا قدم إليه قارورة الرشيد ونظر إليها قال: قولوا لصاحب هذه القارورة أن يدع الحمية ويوصي، فإنه لا يقوم من علته هذه! فلما سمع الرشيد ذلك الكلام من الطبيب أيس من الحياة وذرفت عيناه بالدموع، وجعل يتمثل بهذين البيتين (3):
إن الطبيب بطبه ودوائه * لا يستطيع دفاع محذور القضا ما للطبيب يموت بالداء الذي * قد كان يبرئ غيره فيما مضى قال: ثم أقبل الرشيد بن المهدي على الفضل بن الربيع وهو واقف بين يديه فقال: يا فضل! ما يقول الناس؟ قال: يقولون خيرا يا أمير المؤمنين! فقال: على كل حال اصدقني عن أراجيفهم، فإني أظنهم يقولون قد مات أمير المؤمنين الرشيد بالله. قال: فبكى الفضل وتغرغرت عيناه بالدموع. قال: فاستوى الرشيد جالسا على خيله ثم قال: أسرجوا لي! فأسرجوا له حمارا مصريا، ثم حمل حملا حتى استوى عليه فكاد لحم فخذيه أن يسقط ولم يمكنه أن يثبت على السرج فقال:
أنزلوني، قد صدق الطبيب (4)، أنا والله ميت لا شك في ذلك! قال: ثم دعا بأكفانه فنشرت بين يديه، وأمر بقبره فحفر وهو ينظر إليه (5). ثم جعل يسترجع ويبكي على نفسه وهو يتمثل بقول صالح بن عبد القدوس حيث يقول:
وكم من ذي مصانع قد بناها * وشيدها قليل الخوف عات فبات ولم يروع من زوال * ولا يخشى المنايا الرازيات