تخف فإنك بالتصريح تستريح وتريح.
وعلى كل حال فقد اقترنت مقالة وحدة الوجود بإطار من صفة المروق من الدين والكفر والزندقة، مع أن لها كما سيأتي عدة معان ربما لا يكون لأحدها تلك اللوازم الباطلة ولا غيرها. ولكن لا صبر للرأي العام على التفكير في ذلك، والتفكيك بين المعاني وتوجيه كلام القائل بها.
ولذلك كان يتحاشى المترجم التعبير بعبارة وحدة الوجود تعبيرا صريحا واضحا اما تلامذة مدرسته فقد بالغوا في تصويره القول بالوحدة على الوجه الذي لا يلزم منه تلك اللوازم الباطلة ولا غيرها وأنه ليس المراد من الوحدة الاتحاد الذي يفهم من ظاهر الكلمة وعندهم أن هذا المعنى لا يفهمه الا الأوحدي من الأذكياء والفضلاء. وإذا انطلى على العامة وأشباه العامة لفظ وحدة الوجود فذلك شان من لا يفهم الاسرار الفلسفية، فيشنع على قائلها. وقال هو في تفسير سورة البقرة ص 278: أن أكثر الناس يتنازعون في مسالة لا يعرفون بعد موضوعها ولا محمولها، فقبل تحرير محل النزاع يخاصم بعضهم بعضا ويكفر بعضهم بعضا ويتندرون بقصة الشيخ محمد كاظم في الروضة الحسينية حينما كان في تعقيبه بعد صلاة الصبح يلعن بتسبيحة كاملة الملا صدر، وكل واحد من جماعة آخرين بتسبيحة كاملة منهم المولى محراب وهو الحكيم المولى محراب علي الأصفهاني من اعلام القرن الثاني عشر. وكان هذا الحكيم صدفة جالسا إلى جنبه يستمع إلى هذه التسبيحات القدسية، وهو لا يعرفه وقيل: أنه جاء متخفيا فارا إلى كربلاء من أصفهان بعد تكفيره فيها فقال للشيخ: لما ذا تلعن هؤلاء؟
أ تعرفهم؟، فقال: لأنهم يقولون بوحدة واجب الوجود فلم يفرق بين وحدة الوجود ووحدة واجب الوجود فقال له ببرودة دم متهكما: حق من مثلك أن يلعن من يقول بوحدة واجب الوجود حتى لا ينتشر مثل هذا الاعتقاد.
وسواء صحت هذه القصة الطريفة أم لم تصح، فإنها ترمز عندهم إلى عدة أشياء: منها عدم تمييز العامة للواضحات واضطهادهم للحكماء بما لا يعرفون ومنها اللوم على الحكماء أن يصرحوا بما لا تتحمله عقول العامة، ويحق عليهم اللعن من هذه الجهة، ومنها أن القول بوحدة الوجود الذي يذهب اليه هؤلاء العرفاء راجع في الحقيقة إلى القول بوحدة واجب الوجود. اي أن التوحيد الحقيقي الذي لا يشاب بالشرك لا يصح الا إذا قلنا بوحدة الوجود، اي أن التوحيد الحقيقي الذي لا يشاب بالشرك لا يصح الا إذا قلنا بوحدة الوجود، لأن التوحيد توحيد في العبادة وتوحيد في الخلق وتوحيد في الوجود. ويعبر عنه صدر المتألهين في كثير من الواقع بالتوحيد الخاص أو توحيد الأخصي. فإذا كان التوحيد كفرا فعلى الاسلام السلام!
بل يقولون: إذا نفينا وحدة الوجود التي يفسرها صدر المتألهين يلزمنا القول بالشرك في الحقيقة. وهو دائما يقول: انما الناس يعبدون أصناما ينحتونها بأوهامهم، ويستشهد بكلام للإمام الباقر ع: كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مصنوع مثلكم مردود إليكم.
ولأجل أن نجلي غرض صدر المتألهين وتلاميذ مدرسته في هذا الباب، نقول: أن الأقوال في المسالة يمكن تصويرها في ثلاثة وجوه:
1 تعدد الوجود والموجود. وهذا هو الذي يتصوره عموم الناس.
2 وحدة الوجود والموجود، وأن التعدد الذي يبدو للعامة في الوجود والموجود انما هو تعدد ظاهري مجازي وفي الحقيقة لا تعدد لكل منهما. وهذا هو المذهب المعروف المنسوب إلى المتصوفة، الذي قال عنه الأحسائي أن العلماء مجمعون على تكفير معتقده باعتبار أنه يفهم منه الحلول أو الاتحاد بين الخلق والمخلوق.
3 وحدة الوجود وتعدد الموجود. وهو المنسوب إلى بعض المتألهين، كما حكاه في الاسفار 1: 16 ورد عليه من عدة وجوه، ولكنه نفسه في رسالة سريان الوجود يظهر منه الميل اليه، ومن هنا نستظهر أن هذه الرسالة ألفها في مرحلته الأولى من حياته العلمية. قال فيها ص 138 عن الممكنات: فهي موجودات متعددة متكثرة في الخارج ولها كثرة حقيقية عينية، فالوجود واحد والموجود متعدد متكثر. هذه الاحتمالات الثلاثة المتصورة كل واحد منها به قائل، ولم يبق الا الاحتمال الرابع وهو تعدد الوجود ووحدة الموجود فليس به قائل لوضوح استحالته.
اما الذي استقر عليه رأي المترجم في كتاب الاسفار وغيره، فلا يتفق مع تلك الأقوال الثلاثة كلها، بل إن لم يكن قولا رابعا فهو جمع بين الأقوال، يعني أنه يقول أن الاحتمالات الأربعة كلها صحيحة ويجب القول بها جمعا. فان الذي يراه أن الوجود متعدد حقيقة، ولكنه في عين الحال الوجود واحد حقيقة والموجود أيضا واحد حقيقة فإن شئت قلت بتعدد الوجود والموجود أو بوحدة الوجود والموجود أو بوحدة الوجود وتعدد الموجود أو بتعدد الوجود ووحدة الموجود فكله صحيح ولكن بشرط الجمع بين هذه الأقوال كلها. وهذا من العجيب حقا، ويبدو أنه متهافت متناقض، غير أنه يصر عليه كل الاصرار ويقول أن فهمه يحتاج إلى فطرة ثانية.
ويرتفع التهافت الظاهر بان يكون معنى الوجود متعددا حقيقة أنها الحقيقة في قبال المجاز اللغوي، ومعنى أن الوجود واحد حقيقة أنها الحقيقة في قبال المجاز العرفاني. قال في المبدأ والمعاد ص 114: ليس اطلاق الوجود على ما سوى الله مجازا لغويا بل عرفانيا عند اهل الله.
ولكن يجد أن العبارة قاصرة عن أداء هذا المقصد لغموضه ودقة مسلكه وبعد غوره، فيشتبه على الأذهان ويختلط عند العقول. ولذا طعنوا في كلام الأكابر بأنه مما يصادم العقل الصريح والبرهان الصحيح.
ونكتة الغموض في هذا المسلك وبعد غوره أنه يرى أن الوحدة في الوجود والموجود عين الكثرة، والكثرة فيهما عين الوحدة. وهذا هو معنى المجاز العرفاني في التعدد، لا أن هويات الممكنات أمور اعتبارية محضة وحقائقها أوهام وخيالات لا تحصل لها إلا بحسب الاعتبار، فان هذا ليس معنى المجاز الذي يراه.
ولما كانت الوحدة عين الكثرة، فان الظاهريين لما نظروا إلى الوجود و الموجود بعين واحدة وهي اليسرى واقتصروا عليها رأوا الكثرة والتعدد.
والمتصوفون لما نظروا إليهما بعين ثانية وهي اليمنى واقتصروا عليها رأوا