من أحد فيهم في مسالة اعتقادية دينية يدل على قصور رتبة القادح وسوء الفهم وقلة انصافه. وأكد اختصاص صفة المؤمنين بالعرفاء في اسرار الآيات ص 8 بل لا يرى للفقهاء شانا في المعرفة والعلم والدين، إذ هو من جهة ينقدهم في تعظيمهم للفقه، ولا يرى من الجدير بالإنسان أن يصرف عمره فيه، ومن جهة ثانية ينقد تهاونهم بالحكمة والفلسفة وأهلها، مع ما يشكوه مر الشكوى في تحقيرهم له المبدأ والمعاد ص 278 إذ ما كان له عند الناس رتبة أدنى من آحاد طلبة العلم، ولا عند العلماء الذين أكثرهم أشقى من الجهلاء قدر أقل تلاميذهم. وما أقسى كلمته عنهم:
أكثرهم أشقى من الجهلاء.
ولا ندري هل أن تحامل بعضهم عليه في مبدأ أمره هو الذي دفعه إلى تعميم هذا النقد القاسي أو أن تحامله عليهم هو الذي دفعهم إلى نقده وتوهينه.
وعلى كل حال، فهو لم يختص بنقد الفقهاء، بل تجاوز إلى نقد جميع الناس على اختلاف طبقاتهم وطرقهم، من الحكماء أصحاب البحث والمتكلمين إلى المتصوفين والأطباء وعلماء اللغة والمؤرخين. بل اعتبر جميع الناس هالكين، وإن الايمان الحقيقي في غاية الندرة بل لا يوجد في كل عصر إلا واحد أو اثنان أسرار الآيات له ص 7 بل عنده أكثر أهل الاسلام ظاهرا أهل الكفر والشرك باطنا.
ولم يرض أن يشتغل أحد بغير الحكمة العرفانية، وكل ما عداها علوم جزئية غير ضرورية الاشتغال بها مضيعة للعمر وابتعاد عن الوصول إلى النعيم الدائم، فنقد ابن سينا الأسفار ج 4 ص 127 في اشتغاله بالعلوم الجزئية، كاللغة، ودقائق الحساب وفزار نماطيقي وموسيقى وتفاصيل المعالجات في الطب وذكر الأدوية المفردة والمعاجين وأحوال الدريانات والسموم والمراهم والمسهلات ومعالجة الفروح والجراحات.
وكأنه إنما يعدد كل هذه التفاصيل لأجل توهينها في نظر القارئ وتسخيفها، باعتبارها أمورا غير ضرورية والاشتغال بها اشتغال بأمور الدنيا وحبائلها، مع أن ابن سينا في نظره يجب أن يكون معرضا عن الخلق طالبا للخلوة آنسا بالله آيسا عن غيره.
ومن تهكماته في المشتغلين بغير الحكمة العرفانية قوله في أسرار الآيات ص 65: إن كنت من أهله وإلا فغض بصرك عن مطالعة هذا الكتاب يعني أسرار الآيات والتدبر في غوامض القرآن. وعليك بممارسة القصص والأخبار والروايات وعلم السير والأنساب، وتتبع العربية واللغة وتحمل الرواية من غير دراية، وما هو عندك كالنتيجة للكل يعرض بما يذكره الفقهاء في علم الأصول من لزوم دراسة بعض العلوم مقدمة للفقه من البحث عن المسائل الفرعية الخلافية، ونوادر تفريعات الطلاق والعتاق والسلم والرهن والإجارة وقسمة المواريث....
إلى أن يقول: وقد نصب الله لها كسائر الأمور التي هي أدون منزلة منها أقواما يعظمون الأمر فيها ويصرون عليها ويفرحون بها. وكل حزب بما لديهم فرحون. قيمة كل امرئ على قدر همته.
وهكذا ينقم على الفقهاء علمهم، كما ينقم على غيرهم. ولا يرضى بغير الحكمة علما وبغير الحكماء علماء.
وهذا كله غلو مفرط في فلسفته، ولا لوم على الفقهاء ولا على غيرهم إذا كان عندهم موضع التهمة والتجريح وفي الحقيقة لم يقسوا عليه كما قسا هو عليهم.
وإذا أردنا أن نأخذ برأيه كله في هذا الباب لوجب أن نعطل جميع المعارف والعلوم وجميع الأعمال والمكاسب وجميع الأمور المدنية، ليبقى الانسان معتكفا في الكهوف منتظرا للواردات القلبية والمشاهدات العقلية، فيكون على حد تعبيره صوفيا صفا قلبه وحظي ضميره من كل شوب وغرض.
كان المنتظر من صاحبنا كفيلسوف خبر النفس الانسانية ومتطلباتها أن تكون نظرته إلى الانسان الاجتماعي بالطبع غير هذه النظرة الأنانية المتشائمة. والمنتظر منه كمسلم عرف الشريعة الاسلامية وما وضعت للبشر من تكاليف وأنظمة وقوانين أن يكون حكمه على الانسان غير هذا الحكم الرهباني الذي ما انزل الله به من سلطان.
وعلى كل حال، فإنه وهو يعرف أن كل انسان ميسر لما خلق له كما كرر ذلك في كتبه كان يجب أن تكون نظرته إلى أفراد الناس أكثر تقديرا للواقع، وإنصافا في الحكم وحبا في الخير ولا يبرر تحامله على الناس ذلك التحامل القاسي أنه لاقى عنتا منهم أشرقه بريقه، فان هذا ليس من شيمة العلماء الآلهيين الذين يتطلبون صلاح البشر وهدايتهم إلى الله تعالى. فلا ينبغي أن ينتقم لنفسه منهم.
وإذا كان قصده إقلاعهم عما هو عليه وإقبالهم على الحكمة والمعرفة الفلسفية فليس هذا طريق ترغيب البشر وتحبيذ سبل النجاة لهم بالعنف والشتم والتحقير. بل يلزم للمرشد الهادي أن يأخذ بأيدي الناس إلى الخير بالرفق والشفقة والمحبة.
وأكبر الظن أن فيلسوفنا كان مصابا بكبت عنيف نتيجة لحرمان قاس. وهو الذي دفعه فيما أظن إلى العزلة الطويلة في الجبال النائية خمسة عشر عاما كما تحدثنا عنه في الفصول السابقة، ودفعه إلى النفرة من الناس والنظر إليهم بمنظار أسود قاتم.
وإن كنت لم أستطع أن أقف على ظروفه الخاصة، لا حكم على مصدر ذلك الكبت ونوع ذلك الحرمان.
ولعل ذلك الكبت قد رافقه منذ الصغر، وهذا الذي حدد له اتجاهه الفلسفي وطريقته العرفانية الصوفية. وإن كان قد يعتقد هو أن تفكيره وعقله الواعي هو الذي ساقه إلى اختيار هذا السبيل.
وقد نجد ما يشير إلى ذلك الكبت والحرمان إعلانه للتذمر والنقمة والقسوة في النقد كلما وجد لذلك مجالا على الفقهاء على المتكلمين، على الحكماء، على الصوفية. وتكاد تكون أكثر تلك الاندفاعات لا شعورية منبعثة من عقله الباطن.