في اسماعهم كلامنا موقع القبول إشفاقا بهم.
وفي الحقيقة ان هذا المنهج العلمي هو متفرد به بل هو المؤسس لمدرسته كما قلنا. ولم يعهد كالاسفار كتاب جمع بين الطريقين بأوسع ما يمكن من الجمع والتوفيق، فاحتشدت فيه آراء لناس على اختلاف مشاربهم، ومحاسبتها حسابا دقيقا علميا مع نصوع العبارة ورصانتها وسلامتها وحسن أداء المقاصد والصراحة في ايضاحها. والمعهود في كتب الفلسفة الغموض والرمز والتعقيد.
فسهولة التعليم التي أشار إليها بريئة منه كتب الفلسفة المتقدمة عليه، بل المتأخرة عنه، كيف ومن تعاليمهم ان يكتموا آراءهم إلا على فئة خاصة من تلاميذهم يفتحون لهم رموزهم، حيث يجدون منهم استعدادا لفهم مقاصدهم و الاستنارة بها.
وصاحبنا هو أيضا يوصي بهذه الوصية في كتمان مطالبه على الجلود الميتة اتباعا للحكماء الكبار أولي الأيدي والابصار، كما يقول، ولكن يأخذ بها في اتخاذ الرمز والتعقيد والغموض سبيلا لكتمان آرائه لا سيما في الاسفار بل بالغ في تصوير آرائه باختلاف العبارات والتكرار، حسبما أوتي من مقدرة بيانية وحسبما يسعه موضوعه من أدائه بالألفاظ وهو معبر موهوب لعله لم نعهد له نظيرا في عصره وفي غير عصره من أمثاله من الحكماء وإذا كان أستاذه الجليل السيد الداماد يسمى أمير البيان، فان تلميذه ناف عليه وكان أكثر منه براعة وتمكنا من البيان السهل وانما كان امتياز السيد باستعمال المجاز والكنايات والألفاظ المتخيرة والتسجيع ولأجله أعطي هذا اللقب أمير البيان، وتلميذه في نظري أحق به وأولى.
وإن كان هو يرى أن الحقائق لا يمكن فهمها عن مجرد الألفاظ فان الاصطلاحات وطبايع اللغات مختلفة ولقد أحسن جدا في هذا التعبير الحكيم، وتلك حقيقة واقعة معروفة، لكنه لم يدخر وسعا في تقريب مقاصده من مكان قريب وبعيد في كتابه الاسفار، وجاء فيه بأقصى جهد الكاتب البليغ في توضيحها ووفق توفيقا لم يتهيأ لمثله.
فجاء كما قال في مقدمته آخر ص 3 بحمد الله كلاما لا عوج فيه ولا ارتياب ولا لجلجة ولا اضطراب يعتريه، حافظا للأوضاع، رامزا مشبعا في مقام الرمز والاشباع، قريبا من الافهام في نهاية علوه، رفيعا عاليا في المقام مع غاية دنوه.
ثم قال: واستعملت المعاني الغامضة في الألفاظ القريبة من الاسماع.
ثم قال: انظر بعين عقلك إلى معانيه هل تنظر فيه من قصور؟ ثم ارجع البصر كرتين إلى ألفاظه هل ترى فيه من فطور.
وفي الحقيقة أن كتابه الاسفار جدير بهذا الوصف، لا سيما قوله فيه قريبا من الافهام في نهاية علوه فان قربه من الافهام باعتبار سهولة عبارته ورصانتها، ونهاية علوه باعتبار ما حوى من الآراء الدقيقة والأفكار السامية التي هي في مستوى كبار العلماء المنتهين، فإنه كما قال في المبدأ والمعاد عنه ص 3: وانا عملنا لمن له فضل قوة لتحصيل الكمال على وجه أبلغ وأوفر كتابا جامعا لفنون العلوم الكمالية التي هي ميدان لأصحاب الفكر وفيها جولان لأرباب النظر سميناه الاسفار الأربعة.
المآخذ عليه وحدة الوجود كثر التشنيع على هذا الرجل بعد وفاته عند رجال الدين حتى كان اسمه ومؤلفاته مثار السخط والاشمئزاز. ويكفي أن نعرف أن الشيخ احمد الأحسائي المتوفى سنة 1243 كفره الناس لميله إلى بعض آراء المترجم.
ومن المفارقات العجيبة في تلك العصور أن الأحسائي نفسه كان يقول بكفر صاحبنا ويشنع عليه. وبلية الأحسائي كلها أنه قرأ كتبه من دون حضور على أستاذ فلم يفهمها كما يجب، وكان ذكيا معتدا بنفسه، فأصيب بداء الغرور فاشتط من جهته في تأثره بها عقيدة، واشتط من جهة أخرى في بحث آرائه ناقدا. وفي كلتا الجهتين كان متورطا.
بل صاحبنا قد لاقى من العنت في زمانه ما دفعه إلى اعلان تذمره من اهله والسخط عليهم في عدة تصريحات ثائرة عنيفة في أكثر كتبه، لا سيما في مقدماتها. بل الجاه ذلك إلى أن يهرب بنفسه فينزوي في بعض النواحي البعيدة، على ما سبق ومن امض التشنيعات عليه في نظري أن يقال: (3) في صدد الثناء على ولده ميرزا إبراهيم: " وهو في الحقيقة مصداق يخرج الحي من الميت " وعلل ذلك بأنه " كان على ضد طريقة والده في التصوف والحكمة " بينما أن الوالد هذا لا يرى في غير الحكمة والعرفان حياة للنفس الانسانية، بل من يتجرد عن ذلك يقسو عليهم فيعبر عنهم باهل الجلود الميتة. ومن اللازم أن نشير إلى جملة من المؤاخذات البارزة التي سجلت عليه من قبل المترجمين له:
أحدها رأيه في وحدة الوجود:
إن الرأي المعروف بوحدة الوجود على اجماله يعتبر من سمات المتصوفين التي تدفعهم إلى دعوى الشطحات والمواجدة وعلم المغيبات وما إليها، ويعد من أكبر الوصمات فيهم الملازمة لطعنهم بالكفر والزندقة.
وهو يساوق عند الناس مقالة الحلول والتناسخ. وهذه الكلمات وحدها مدعاة لإثارة الشعور بكراهية القائل بها، وللاستنكار لأقواله والتسرع بنسبته إلى الكفر، وأن لم تتحدد معانيها ومفاهيمها بالضبط، ولم تعرف العامة السر في التكفير بها.
قال الشيخ احمد الأحسائي في شرحه للعرشية ناقدا المولى محسن الفيض ص 12: فإذا لم يكن قوله هذا قولا بوحدة الوجود إذن؟.
وموضع الشاهد نقله الاجماع على تكفير معتقد وحدة الوجود.
اما السر في الكفير بها، فقد قيل: أن لازم هذه المقالة أن يكون أمير المؤمنين ع وقاتله ابن ملجم مثلا ممدوحين ناجبين. وكذا موسى وفرعون، والحسين ع ويزيد، وهكذا الخلق كلهم سعيدهم وشقيهم اما لا شقي أو لا سعيد. وقيل: أن لازمها أن يتصف الله تعالى بصفات الممكنات أو تتصف الممكنات بصفات الواجب، أو تكون هو إياها أو هي إياه، فتكون واجبة الوجود أو معبودة، فتصح العبادات لفرعون والأصنام والشمس والقمر وهكذا. قال الشيخ احمد الأحسائي في شرح العرشية ص 17 مخاطبا للمولى محسن الفيض متهكما: قل انا الله، ولا