بل ذم مجرد الأنظار البحثية أشد ذم، فقال في الاسفار ج 1 ص 75:... لا على مجرد الأنظار البحثية التي ستلعب بالمعولين عليها الشكر، ويلعن اللاحق منهم فيها السابق، ولم يتصالحوا عليها، بل كلما دخلت أمة لعنت أختها ثم اثنى على كبار الحكماء والأولياء في مشاهداتهم النورية، وذلك في موضوع المثل الأفلاطونية، فقال: واكتفوا فيه بمجرد المشاهدات الصريحة المتكررة التي وقعت لهم فحكوها لغيرهم، لكن يحصل للانسان الاعتماد على ما اتفقوا عليه والجزم بما شاهدوه ثم ذكروه.
وليس لاحد ان يناظرهم فيه. وكيف وإذا اعتبروا أوضاع الكواكب واعداد الأفلاك بناء على ترصد شخص كأبرخس أو اشخاص بوسيلة الحس المثار للغلط والطغيان، فبان يعتبروا أقوال فحول الفلسفة المبتنية على ارصادهم العقلية المكررة التي لا تحتمل الخطأ كان أحرى.
وهذا غاية ما يمكن ان يقال في الثناء على الارصاد العقلية: ليس لاحد ان ينازع فيها! لا تحتمل الخطأ! ان هذا لشئ عجيب!
ولكنه مع قوة عقيدته هذه في المكاشفات العرفانية يرى أنه لا غنى للانسان السالك بأحد الطريقين عن الآخر. وقد كرر ذلك في كتبه وأكده مرة بعد أخرى، فأصر على ضرورة الجمع بينهما كما جمع هو، وتفرد بهذا الجمع فبلغ ما لم يبلغه أحد من فلاسفة العصور الاسلامية.
قال في المبدأ والمعاد ص 278: فأولى ان يرجع إلى طريقتنا في المعارف والعلوم الحاصلة لنا بالممازجة بين طريقة المتألهين من الحكماء والمليين من العرفاء.
ثم قال متبجحا: فان ما تيسر لنا بفضل الله ورحمته وما وصلنا اليه بفضله وجوده من خلاصة اسرار المبدأ والمعاد مما لست أظن ان قد وصل اليه أحد ممن اعرفه من شيعة المشائين ومتأخريهم دون أئمتهم ومتقدميهم كأرسطو ومن سبقه. ولا أزعم ان كان يقدر على اثباته بقوة البحث والبرهان شخص من المعروفين بالمكاشفة والعرفان من مشائخ الصوفية من سابقيهم ولاحقيهم.
إذن لا المشاؤون بلغوا ما بلغه بالمكاشفة، ولا الاشراقيون والعرفاء بلغوا ما بلغه بالبحث والبرهان. فهو المتفرد بجمعه بين مسلك الطائفتين والتوفيق بينهما.
ثم قال ليؤكد سر تفوقه في منهجه: وظني ان هذه المزية انما حصلت لهذا العبد المرحوم من الأمة المرحومة، من الواهب العظيم والجواد الرحيم، لشدة اشتغاله بهذا المطلب العالي وكثرة احتماله من الجهلة والأرذال وقلة شفقة الناس في حقه وعدم التفاتهم إلى جانبه، حتى أنه كان في الدنيا مدة مديدة كأنه يشير إلى دور العزلة كئيبا حزينا ما كان له عند الناس رتبة أدنى من آحاد طلبة العلم، ولا عند علمائهم الذين أكثرهم أشقى من الجهال قدر أقل تلاميذهم.
وصرح هو مرة في الاسفار 4 161 بجمعه بين الطريقين إذ علل اختلافه مع بعض مشايخ الصوفية في بعض أقوالهم، فقال: لان من عادة الصوفية الاقتصار على مجرد الذوق والوجدان فيما حكموا عليه. واما نحن فلا نعتمد كل الاعتماد على ما لا برهان عليه قطعيا، ولا نذكره في كتبنا الحكمية.
ولم يزل يشنع على من يستعمل أحد المسلكين دون الآخر، كقوله في مفاتيح الغيب ص 3 ومثله في الاسفار ص 4: ولا تشتغل بترهات الصوفية ولا تركن إلى أقاويل المتفلسفة، وهم الذين إذا جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن. وقانا الله وإياك يا خليلي من شر هاتين الطائفتين ولا جمع بيننا وبينهم طرفة عين.
بل عبر في مقدمة تفسير الفاتحة عن الطائفة الأولى بالمبتدعين المضلين، وعن الطائفة الثانية بالمعطلين الضالين. ثم قال: لان كلهم من أولياء الشياطين وأبناء الظلمات وأهل الطاغوت.
إذن فلسفته التي يدعو إليها ويحلف فيها هي الجمع بين طريقة المشائين وطريقة الاشراقيين والتوفيق بينهما. وعلى هذا تبتني مدرسته العلمية تعليمه وارشاده لأبنائه الروحانيين ولأجلها ألف معظم كتبه لا سيما الاسفار، إذ قال في مقدمته آخر ص 3: قد اندمجت فيه العلوم التألهية في الحكمة البحثية، وتدرعت فيه الحقائق الكثيفة بالبينات التعليمية ولا يجد غنى للسالك باحدى الطريقتين عن الأخرى، كما سبق.
وهذه في الحقيقة مدرسة جديدة للفلسفة الأهلية لم يعهد لاحد قبله سلوكها والدعوة إليها صراحة، الا ما قد يظن في أستاذه السيد الداماد، فيكون عنه اخذها فجلاها وبين معالمها فان لم يكن فيها هو المجدد المؤسس فهو الموضح لها المشيد لأركانها المعلن بها.
ثم بعد هذا يرى ان الشرع والعقل متطابقان في جميع المسائل الحكميات الاسفار: ص 75. وأعقب هذا التصريح بقوله: حاشا الشريعة الحقة الإلهية البيضاء ان تكون احكامها مصادمة للمعارف اليقينية الضرورية. وتبا لفلسفة تكون قوانينها غير مطابقة للكتاب والسنة.
وهذه مدرسة أخرى له في المعرفة، وهي التوفيق بين الشرع الاسلامي وبين الفلسفة اليقينية وعلى هذا لم يفتأ يستشهد على كل مسالة حكمية عويصة بالآيات القرآنية والآثار الاسلامية وهو بارع حقا في تطبيق ما يستشهد به منها على فلسفته.
والحق انه في هذه المدرسة مجدد مؤسس أيضا لم يعرف له نظير فيها.
وحاشا ان يكون استشهاده بالأدلة السمعية كما يسميها رياء لغرض دفع عادية المتهمين له بالخروج على الشرع، بل هو دائما يتبجح بأنه لا يرى أحدا يفهم اسرار القرآن الكريم والسنة كما يفهمهما هو، ويبالغ في التوفيق بين فلسفته والدين مبالغة تجعله أبعد ما يكون عن الرياء والدجل، حتى يكاد ان يجعل كتبه الفلسفية تفسيرا للدين، وكتبه الدينية كتفسير القرآن الكريم وشرح أصول الكافي تفسيرا للفلسفة. ولذا نقول إن كتبه في التفسير وشرح الحديث هي امتداد لفلسفته.
والحاصل ان الذي نستوضحه من أسلوبه والتأليف ان له فكرة واحدة يسعى إليها جاهدا في كل ما ألف، وهي ما تلخصها عبارته المتقدمة من أن الشرع والعقل متطابقان ولهذه الفكرة العميقة جزءان أو طرفان:
الطرف الأول تأييد العقل للشرع، والطرف الثاني تأييد الشرع للعقل.