درجة من المعرفة أدرك فيها عجزه عن اكتناه مقاصده العالية.
وأزيدك أني من المؤمنين بان صدر المتألهين أحد أقطاب أربعة في الدورة الاسلامية: هو والمعلم الثاني أبو النصر الفارابي المتوفى حدود 304، والشيخ الرئيس ابن سينا 373 427، والخواجا نصير الدين محمد بن الحسن الطوسي 597 673. هؤلاء هم في الرعيل الأول وهم الأصول للفلسفة والمترجم خاتمتهم، والشارح لآرائهم، والمروح لطريقتهم، والأستاذ الأكبر لفنهم. ولولا خوف المغالاة لقلت هو الأول من بينهم الرتبة العلمية، لا سيما في المكاشفة والعرفان.
والرجل نشأ مطاردا متقوما عليه حتى كان يقول عن نفسه: ما كان له رتبة أدنى من آحاد طلبة العلم. ولكنه في أيامه الأخيرة أقبل الناس على فلسفته والتلمذة عليه حتى نبغ من بينهم جماعة منهم صهراه على ابنتيه الحكيم المحدث المشهور ملا محسن الفيض والحكيم الآخر الشيخ عبد الرزاق اللاهيجي الفياض صاحب شوارق الالهام. والفيض والفياض لقبان وضعهما لهما أستاذهما وأبو زوجتيهما صدر المتألهين.
أما بعد حياته فقد بعد صيته وأقبل طلاب الفلسفة إقبالا عظيما على مؤلفاته يتدارسونها ويكتبونها ويتلمذون عليها، وسادت مدرسته الفلسفية ومؤلفاته وطغت على كل مدرسة ومؤلفات أخرى حتى مؤلفات الشيخ ابن سينا والخواجا نصير الدين الطوسي. وبالأخير أي قبل مائة سنة فما بعدها طبعت جميع مؤلفاته في المطابع الحجرية بإيران.
نشأته لم نتحقق من التاريخ سنة ولادته، وقد توفي سنة 1050 في البصرة في طريقه للحج امرة السابعة أو بعد رجوعه. وأكبر الظن أنه تجاوز السبعين أو ناهزها، فيكون تولده في الربع الأخير من القرن العاشر الهجري.
وكل ما عرفنا عنه انه تولد في شيراز من والد صالح اسمه إبراهيم بن يحيى القوامي، وقيل: كان أحد وزراء دولة فارس التي عاصمتها شيراز، وانه من عائلة محترمة هي عائلة قوامي. وهذا الوزير لم يولد له ذكر فنذر لله ان ينفق مالا خطيرا على الفقراء وأهل العلم إذا رزق ولدا ذكرا صالحا موحدا، فكان ما أراد في شخص ولده هذا محمد صدر الدين.
فتربى هذا الولد الوحيد لأبويه في حجر والده معززا مكرما، وقد وجهه لطلب العلم. ولما توفي والده الذي لم نتحقق سنة وفاته رحل المترجم لتكميل معارفه إلى أصفهان عاصمة العلم والسلطان يومئذ في عهد الصفوية. ويظهر انه حين انتقل إلى أصفهان كان ذا ثقافة ممتازة، لان أول حضوره كان على الشيخ بهاء الدين العاملي 953 1031. وما تظن انه يحضر درس الشيخ البهائي وهو شيخ الاسلام يومئذ!
فهو من ولعه في طلب العلم أنفق كل ما خلفه والده من المال في تحصيله، وأشرب المذهب استوفي الفلسفي العرفاني الذي كان هو السائد في ذلك العصر، والذي كان يجهر به حتى الشيخ البهائي، فانعكس على نفسية هذا الطلب الذكي. فأولع فيه ولوعا اخذ عليه جميع اتجاهاته، وخلق منه صوفيا عرفانيا وفيلسوفا إلهيا فريدا قل نظيره أو لا نظير له. فقد صرح هو في مقدمة الاسفار بهذا الولع، فقال ص 2: قد صرفت قوتي في سالف الزمان منذ أول الحداثة والريعان في الفلسفة الآلهية بمقدار ما أوتيت من المقدور وبلغ اليه قسطي من السعي الموفور.
ومن اثر ولعه بالفلسفة واتجاهه هذا كان انقطاعه إلى درس فيلسوف عصره السيد الداماد محمد باقر المتوفى سنة 1040، وكان يعظمه كثيرا ومما قاله فيه قوله في شرح أصول الكافي في شرح أول حديث منه: سيدي وسندي وأستاذي واستنادي في المعالم الدينية والعلوم الإلهية والمعارف الحقيقية والأصول اليقينية...
وبهذا ومثله يعبر عنه في كل مناسبة تدعو إلى ذكره.
والذي استنتجه ان صاحبنا صدر المتألهين مرت له في نشأته العلمية ثلاث مراحل رئيسية كونت منه عظيما من جملة عظماء تاريخ الفلسفة:
المرحلة الأولى دور التلمذة، وهو دور البحث وتتبع آراء المتكلمين والفلاسفة ومناقشتهم، ويظهر انه لم ينضج يومئذ مسلكه العرفاني. وذلك ما يشير اليه في مقدمة تفسير سورة الواقعة.
واني كنت سالفا كثير الاشتغال بالبحث والتكرار وشديد المراجعة إلى مطالعة كتب الحكماء والنظار، حتى ظننت اني على شئ فلما انفتحت بصيرتي ونظرت إلى حالي وذلك طبعا بعد المرحلة الأولى هذه رأيت نفسي وان حصلت شيئا من أحوال المبدأ وتنزيهه عن صفات الإمكان والحدثان وشيئا من احكام المعاد لنفوس الانسان فارغة من العلوم الحقيقية وحقائق العيان مما لا يدرك الا بالذوق والوجدان. ويريد من العلوم الحقيقية المكاشفات العرفانية.
وقد أظهر الندم مما فرط في أول عمره في سلوك مسلك اهل البحث، فقال في مقدمة الاسفار ص 4: واني لأستغفر الله مما ضيعت شطرا من عمري من تتبع آراء المتفلسفين والمجادلين من اهل الكلام، وتدقيقاتهم وتعلم جربزتهم في القول وتفننهم في البحث.
ولئن أظهر الندم والأسف على ما ضيع في هذه المرحلة من الوقت، فإنه استفاد منها كثيرا للمرحلة الأخيرة من حياته، وهي دور احتأليف الذي جمع فيه بين المسلك البحثي والمسلك العرفاني، وسنذكره في البحث الآتي.
على أنه في هذه المرحلة لم يسلك مسلكا بحتيا صرفا، بل كان مشوبا بالمسلك العرفاني وان كان بعد لم ينضج عنده، ولذا كان يقول بوحدة الوجود فيها وألف فيها رسالة طرح الكونين في وحدة الوجود على ما سيأتي. ومن هذا القول وأمثاله مما كان لا يتورع من التصريح به والاعلان بتحبيذه كان مضايقا من الناس الذين أشرقوه بريقه جزعا، على ما صرح به في عدة مناسبات في كتبه، ويشير بها إلى هذه المرحلة الأولى بالذات.
فالتجأ إلى أن يفر بنفسه منهم وينتقل إلى: