القوة القدسية الثابتة لديهم منذ الولادة موقوف على إرادتهم المتوقفة على وجود المصلحة في إبراز الحقائق المستورة وإظهار ما عندهم من مكنون العلم، على أن هذا المضمون ورد في أحاديث ثلاثة ردها المجلسي في مرآة العقول بضعف بعض رجالها وجهالة الآخرين.
وحكاية الكتاب المجيد عن النبي صلى الله عليه وآله (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) لا تفيد إلا كونه مفتقرا إلى الله تعالى في العلم بالمغيبات وأنه لم يكن عالما به من تلقاء نفسه، وهذا لا ريب فيه فإن المعتقد أن الله تعالى هو المتلطف على النبي والأئمة من أبنائه بالملكة القدسية التي تمكنوا بواسطتها من استكشاف ما في الكون، وإرادة النفي المطلق باطلة لأنه لا ريب في اخباره ببعض المغيبات، مع أن السياق يقتضي أن يراد من النفي العلم بالساعة لأن السؤال كان عنها.
فالمتحصل مما ذكرناه أن الله تعالى بمنه ولطفه أفاض على نبيه الأقدس صلى الله عليه وآله وخلفائه المعصومين ملكة نورية تمكنوا بواسطتها من استعلام ما يقع من الحوادث وما في الكائنات من الخواص وأسرار الموجودات وما يحدث من خير وشر، ولا غلو فيه بعد قابليتهم لتحمل هذا الفيض المبارك، وعدم الشح في عطاء الرب سبحانه (يهب ما يشاء لمن يشاء) وصارح الأئمة عليهم السلام بهذه الحبوة الإلهية.
وأنه غير بعيد فيمن تجرد للطاعة وعجنت طينته بماء النزاهة من الأولياء والصديقين فضلا عمن قبضهم الباري عز شأنه أمناء شرعه وأعلاما لعباده.
وقد اعترف الشيخ المفيد في المقالات ص - 77 - بأن الله سبحانه أكرم الأئمة من آل محمد عليهم السلام بمعرفة ضمائر العباد وما يكون قبل كونه لطفا منه سبحانه لهذه الذوات القدسية، وإن لم يجب ذلك عقلا لكنه وجب لهم بالسماع.
وذكر الطبرسي في مجمع البيان عند قوله تعالى في سورة الأنعام الآية 50 (لا أعلم الغيب) أنه لم يعلم الغيب من تلقاء نفسه وإنما يعلم ما يعلمه الله به وفي مرآة العقول ج 1 ص 187 إن الجمع بين الآيات والروايات أنهم عليهم السلام لا يعلمون الغيب من تلقاء أنفسهم بغير تعليمه بوحي أو الهام، وإلا فظاهر أن عمدة معاجز الأنبياء والأوصياء من هذا القبيل.
وعلى ضوء الأحاديث المتكثرة مشى المحقق الآشتياني في حاشيته على رسائل الشيخ الأنصاري ج 2 ص 60 فسجل اعتقاده بما ارتئيناه.
ولم يتباعد العلامة الآلوسي عما قررناه من تمكن المولى سبحانه الخلفاء المعصومين من الوقوف على المغيبات، فإنه قال في تفسيره (روح المعاني) ج 20 ص 11 عند قوله تعالى في سورة النمل الآية 65 (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) لعل الحق إن علم الغيب المنفي عن غيره جل وعلا هو ما كان للشخص بذاته أي بلا واسطة في ثبوته له، وما وقع للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شئ، وإنما هو من الواجب عز وجل إفاضة منه عليهم بوجه من الوجوه، فلا يقال إنهم علموا الغيب بذلك المعنى فإنه كفر، بل يقال إنهم أظهروا واطلعوا على الغيب.
ويقول ابن حجر في الفتاوى الحديثية ص 223 إعلام الله تعالى للأنبياء والأولياء ببعض الغيوب ممكن لا يستلزم محالا بوجه، وانكار وقوعه عناد، لأنهم علموا بأعلام الله واطلاعه لهم، وقد صرح النووي في فتاويه به فقال لا يعلم ذلك استقلالا، وإنما هو باعلام الله لهم.
ويحكى عبد القادر العيدروس في النور السافر في أعيان القرن العاشر ص 85 إن النيسابوري صاحب التفسير يقول امتناع الكرامة من الأولياء إما لأن الله ليس أهلا لأن يعطى المؤمن ما يريد، وإما لأن المؤمن ليس أهلا لذلك، وكل منهما بعيد، فإن توفيق المؤمن لمعرفته لمن أشرف المواهب منه تعالى لعبده، وإذا لم يبخل الفياض بالأشرف فلأن لا يبخل بالأدون أولى.
وهؤلاء وإن لم يوافقوا الشيعة على ما يعتقدونه في أئمتهم عليهم السلام من القدرة على العلم بالحوادث الكائنة والتي تكون، لاعتقادهم أن هذه السعة مختصة بالباري جل شأنه.
ولكن الملاك الذي قرروه لمعرفة الأنبياء والأولياء ببعض الغيب وهو تمكين المولى سبحانه لهم من الوقوف على المغيبات تفيد ما تعتقده الشيعة من سعة العلم، فإن الميزان للوقوف على الغيب إذا كان باقدار الله تعالى فمن الجائز أن تكون تلك القوة النورية بالغة أقصى مداها حتى كأن الأشياء كلها حاضرة لديهم على حد تعبير الإمام الصادق عليه السلام اللهم إلا ما استأثر به الله وحده فإنه لا وقوف لأحد عليه مهما ترقى إلى فوق ذروة الكمال.
وعلى هذا الذي سجلناه من سعةعلم الإمام الشامل لجميع الحوادث وأسرار الكائنات وخواص الطبايع حبوة من مفيض النعم تعالت نعماؤه يتجلى أنه عليه السلام لم يفته العلم فيما يحد الكر من المساحة المطابقة تحقيقا للوزن، والأخبار الحاكية عنه تحديدهما مع ما يشاهد فيهما من الاختلاف فبعد غض النظر عما يقال في بعضها يكون العلاج إما بحمل الزائد على كونه علامة على وجود الحد قبله، وذلك في صورة زيادة الوزن على المساحة بمقدار يتسامح فيه، وصورة زيادة المساحة على الوزن بمقدار يتسامح فيه، وهذا نظير ما ورد عنهم عليهم السلام من تحديد حد الترخص بخفاء الأذان والجدران مع أنهما لا يتطابقان دائما، فيكون خفاء الجدران علامة على وجود الحد قبله، وإما بترجيح ما يفيد كون المساحة سبعة وعشرون شبرا فإنها تتفق مع الوزن دائما على الأرطال العراقية كما جربه بعض الأعلام.