القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد، فظهر أن هذا الترتيب أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلى الدين الحق. إذا عرفت هذا فنقول: إنه سبحانه ذكر في أول هذه السورة أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف، ثم أتبعها بشرح أحوال الكافرين والمنافقين واستقصى في ذلك، ثم ختم تلك الآيات الدالة على عظمة جلال الله وكمال كبريائه، ثم عاد بعد ذلك إلى بيان الأحكام فقال * (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: الاستفتاء طلب الفتوى يقال: استفتيت الرجل في المسألة فأفتاني إفتاء وفتيا وفتوى، وهما إسمان موضوعان موضع الافتاء، ويقال: أفتيت فلانا في رؤيا رآها إذا عبرها قال تعالى: * (يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقران سمان) * (يوسف: 46) ومعنى الافتاء إظهار المشكل، وأصله من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل، فالمعنى كأنه يقوى ببيانه ما أشكل ويصير قويا فتيا.
المسألة الثانية: ذكروا في سبب نزول هذه الآية قولين: الأول: أن العرب كانت لا تورث النساء والصبيان شيئا من الميراث كما ذكرنا في أول هذه السورة، فهذه الآية نزلت في توريثهم. والثاني: أن الآية نزلت في توفية الصداق لهن، وكان اليتيمة تكون عند الرجل فإذا كانت جميلة ولها مال تزوج بها وأكل مالها، وإذا كانت دميمة منعها من الأزواج حتى تموت فيرثها، فأنزل الله هذه الآية. المسألة الثالثة: اعمل أن الاستفتاء لا يقع عن ذوات النساء وإنما يقع عن حالة من أحوالهن وصفة من صفاتهم، وتلك الحالة غير مذكورة في الآية فكانت مجملة غير دالة على الأمر الذي وقع عنه الاستفتاء.
أما قوله تعالى: * (وما يتلى عليكم) * ففيه: الأول: أنه رفع بالابتداء والتقدير: قل الله يفتيكم في النساء، والمتلو في الكتاب يفتيكم فيهن أيضا، وذلك المتلو في الكتاب هو قوله * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * (النساء: 3).
وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها، وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها. وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب، ألا ترى أنه يقال في المجاز المشهور: إن كتاب الله بين لنا هذا الحكم، وكما جاز هذا جاز أيضا أن يقال: إن