لما بلغ في علو الدرجة في الدين أن اتخذه الله خليلا كان جديرا بأن يتبع خلقه وطريقته. والثاني: أنه لما ذكر ملة إبراهيم ووصفه بكونه حنيفا ثم قال عقيبه * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * أشعر هذا بأنه سبحانه إنما اتخذه خليلا لأنه كان عالما بذلك الشرع آتيا بتلك التكاليف، ومما يؤكد هذا قوله * (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما) * (البقرة: 124) وهذا يدل على أنه سبحانه إنما جعله إماما للخلق لأنه أتم تلك الكلمات. وإذ ثبت هذا فنقول: لما دلت الآية على أن إبراهيم عليه السلام إنما كان بهذا المنصب العالي وهو كونه خليلا لله تعالى بسبب أنه كان عاملا بتلك الشريعة كان هذا تنبيها على أن من عمل بهذا الشرع لا بد وأن يفوز بأعظم المناصب في الدين، وذلك يفيد الترغيب العظيم في هذا الدين.
فإن قيل: م موقع قوله * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * قلنا: هذه الجملة اعتراضية لا محل لها من الاعراب، ونظيره ما جاء في الشعر من قوله: والحوادث جمة والجملة الاعتراضية من شأنها تأكيد ذلك الكلام، والأمر ههنا كذلك على ما بيناه.
المسألة الثانية: ذكروا في اشتقاق الخليل وجوها: الأول: أن خليل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره، والذي دخل حبه في خلال أجزاء قلبه، ولا شك أن ذلك هو الغاية في المحبة.
قيل: لما طلع الله إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ودعا القوم مرة بعد أخرى إلى توحيد الله، ومنعهم عن عبادة النجم والقمر والشمس، ومنعهم عن عبادة الأوثان ثم سلم نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان جعله الله إماما للخلق ورسولا إليهم، وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته، فلهذه الاختصاصات سماه خليلا، لأن محبة الله لعبده عبارة عن إرادته لإيصال الخيرات والمنافع إليه.
الوجه الثاني في اشتقاق اسم الخليل: أنه الذي يوافقك في خلالك.
أقول: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تخلفوا بأخلاق الله " فيشبه أن إبراهيم عليه السلام لما بلغ في هذا الباب مبلغا لم يبلغه أحد ممن تقدم لا جرم خصه الله بهذا التشريف.
الوجه الثالث: قال صاحب " الكشاف ": إن الخليل هو الذي يسايرك في طريقك، من الخل وهو الطريق في الرمل، وهذا الوجه قريب من الوجه الثاني، أو يحمل ذلك على شدة طاعته لله وعدم تمرده في ظاهره وباطنه عن حكم الله، كما أخبر الله عنه بقوله * (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت