وأخلاقهم أرذل الأخلاق وهو الغارة والنهب والقتل وأكل الأطعمة الرديئة. ثم لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم نقلهم الله ببركة مقدمة من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطياتها. ولا شك أن فيه أعظم المنة.
إذا عرفت هذه الوجوه فنقول: ان محمدا عليه الصلاة والسلام ولد فيهم ونشأ فيما بينهم وكانوا مشاهدين لهذه الأحوال، مطلعين على هذه الدلائل، فكان إيمانهم مع مشاهدة هذه الأحوال أسهل مما إذا لم يكونوا مطلعين على هذه الأحوال. فلهذه المعاني من الله عليهم بكونه مبعوثا منهم فقال: * (إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) * وفيه وجه آخر من المنة وذلك لأنه صار شرفا للعرب وفخر لهم، كما قال: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * (الزخرف: 44) وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب. ثم إن اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل، فما كان للعرب ما يقابل ذلك، فلما بعث الله محمدا عليه السلام وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم، فهذا هو وجه الفائدة في قوله: * (من أنفسهم) *.
ثم قال بعد ذلك: * (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) *. واعلم أن كمال حال الانسان في أمرين: في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، وبعبارة أخرى: للنفس الانسانية قوتان، نظرية وعملية، والله تعالى أنزل الكتاب على محمد عليه السلام ليكون سببا لتكميل الخلق في هاتين القوتين، فقوله: * (يتلو عليهم آياته) * إشارة إلى كونه مبلغا لذلك الوحي من عند الله إلى الخلق، وقوله: * (ويزكيهم) * إشارة إلى تكميل القوة النظرية بحصول المعارف الإلهية * (والكتاب) * إشارة إلى معرفة التأويل، وبعبارة أخرى * (الكتاب) * إشارة إلى ظواهر الشرعية * (والحكمة) * إشارة إلى محاسن الشريعة وأسرارها وعللها ومنافعها، ثم بين تعالى ما تتكمل به هذه النعمة. وهو أنهم كانوا من قبل في ضلال مبين، لأن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان توقعها أعظم، فإذا كان وجه النعمة العلم والاعلام، ووردا عقيب الجهل والذهاب عن الدين، كان أعظم ونظيره قوله: * (ووجدك ضالا فهدى) * (الضحى: 7).