المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه الله: اللام في قوله: * (ولئن قتلتم) * لام القسم، بتقدير الله لئن قتلتم في سبيل الله، واللام في قوله: * (لمغفرة من الله ورحمة) * جواب القسم، ودال على أن ما هو داخل عليه جزاء، والأصوب عندي أن يقال: هذه اللام للتأكيد، فيكون المعنى ان وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم، فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا، فلماذا تحترزون عنه كأنه قيل: ان الموت والقتل غير لازم الحصول، ثم بتقدير أن يكون لازما فإنه يستعقب لزوم المغفرة، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه؟
المسألة الثالثة: قرأ حفص عن عاصم (يجمعون) بالياء على سبيل الغيبة، والباقون بالتاء على وجه الخطاب، أما وجه الغيبة فالمعنى أن مغفرة الله خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني، وأما وجه الخطاب فالمعنى أنه تعالى كأنه يخاطب المؤمنين فيقول لهم مغفرة الله خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا.
المسألة الرابعة: إنما قلنا: ان رحمة الله ومغفرته خير من نعيم الدنيا لوجوه: أحدها: ان من يطلب المال فهو في تعب من ذلك الطلب في الحال، ولعله لا ينتفع به غدا لأنه يموت قبل الغد وأما طلب الرحمة والمغفرة فإنه لا بد وأن ينتفع به لأن الله لا يخلف وعده، وقد قال: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * (الزلزلة: 7) وثانيها: هب أنه بقي إلى الغد لكن لعل ذلك المال لا يبقى إلى الغد، فكم من انسان أصبح أميرا وأمسى أسيرا، وخيرات الآخرة لا تزول لقوله: * (والباقيات الصالحات خير عند ربك) * (الكهف: 46) ولقوله: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) * (النحل: 96) وثالثها: بتقدير أن يبقى إلى الغد ويبقى المال إلى الغد، لكن لعله يحدث حادث يمنعك عن الانتفاع به مثل مرض وألم وغيرهما، ومنافع الآخرة ليست كذلك. ورابعها: بتقدير أنه في الغد يمكنك الانتفاع بذلك المال، ولكن لذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار، وذلك مما لا يخفي، وأما منافع الآخرة فليست كذلك. وخامسها: هب أن تلك المنافع تحصل في الغد خالصة عن الشوائب ولكنها لا تدوم ولا تستمر، بل تنقطع وتفنى، وكلما كانت اللذة أقوى وأكمل، كان التأسف والتحسر عند فواتها أشد وأعظم، ومنافع الآخرة مصونة عن الانقطاع والزوال. وسادسها: أن منافع الدنيا حسية ومنافع الآخرة عقلية، والحسية خسيسة، والعقلية شريفة، أترى ان انتفاع الحمار بلذة بطنه وفرجه يساوي ابتهاج الملائكة المقربين عند اشراقها بالأنوار الإلهية، فهذه المعاقد الستة تنبهك على ما لا نهاية لها من الوجوه الدالة على صحة قوله سبحانه وتعالى: * (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) *.
فان قيل: كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما تجمعون، ولا خير فيما تجمعون أصلا.