في الفضل والاحسان بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم على عفوه عنهم، وتركه التغليظ عليهم فقال: * (فبما رحمة من الله لنت لهم) * ومن أنصف علم أن هذا ترتيب حسن في الكلام. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن لينه صلى الله عليه وسلم مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم قال تعالى: * (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) * (الشعراء: 215) وقال: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) *، وقال: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * (القلم: 4) وقال: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) * (التوبة: 128) وقال عليه الصلاة والسلام: " لا حلم أحب إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه " فلما كان عليه الصلاة والسلام إمام العالمين، وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقا. وروى أن امرأة عثمان دخلت عليه صلى الله عليه وسلم، وكان النبي وعلي يغسلان السلاح، فقالت: ما فعل ابن عفان؟ أما والله لا تجدونه امام القوم، فقال لها علي: ألا إن عثمان فضح الزمان اليوم، فقال عليه الصلاة والسلام " مه " وروي أنه قال حينئذ: أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا، ولما دخل عليه عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال: " لقد ذهبتم فيها عريضة " وروي عن بعض الصحابة أنه قال: لقد أحسن الله إلينا كل الاحسان، كنا مشركين، فلو جاءنا رسول الله بهذا الدين جملة، وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا، فما كنا ندخل في الاسلام، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الايمان، قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم الدين وكملت الشريعة. وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " إنما أنا لكم مثل الوالد فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها " واعلم أن سر الأمر في حسن الخلق أمران: اعتبار حال القائل، واعتبار حال الفاعل، أما اعتبار حال القائل فلأن جواهر النفوس مختلفة بالماهية، كما قال عليه الصلاة والسلام: " الأرواح جنود مجندة " وقال: " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " وكما أنها في جانب النقصان تنتهي إلى غاية البلادة والمهانة والنذالة، واستيلاء الشهوة والغضب عليها واستيلاء حب المال واللذات، فكذلك في جانب الكمال قد تنتهي إلى غاية القوة والجلالة، أما في القوة النظرية فيكون كما وصفه الله تعالى بقوله: * (نور على نور) * (النور: 35) وقوله: * (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * (النساء: 113) وأما في القوة العملية، فكما وصفه الله بقوله: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * كأنها من جنس أرواح الملائكة، فلا تنقاد للشهوة ولا تميل لدواعي الغضب، ولا تتأثر من حب المال والجاه، فان من تأثر عن شيء كان المتأثر أضعف من المؤثر، فالنفس إذا مالت إلى هذه المحسوسات