واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل، وأمرهم أن يثبتوا هناك ولا يبرحوا، سواء كانت النصرة للمسلمين أو عليهم، فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون نبلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا، والمسلمون على آثارهم يحسونهم، قال الليث: الحس: القتل الذريع، تحسونهم: أي تقتلونهم قتلا كثيرا، قال أبو عبيد، والزجاج، وابن قتيبة: الحس: الاستئصال بالقتل، يقال: جراد محسوس. إذا قتله البرد. وسنة حسوس: إذا أتت على كل شيء، ومعنى " تحسونهم " أي تستأصلونهم قتلا، قال أصحاب الاشتقاق: " حسه " إذا قتله لأنه أبطل حسه بالقتل، كما يقال: بطنه إذا أصاب بطنه، ورأسه، إذا أصاب رأسه، وقوله: * (باذنه) * أي بعلمه، ومعنى الكلام أنه تعالى لما وعدكم النصر بشرط التقوى والصبر على الطاعة فما دمتم وافين بهذا الشرط أنجز وعده ونصركم على أعدائكم، فلما تركتم الشرط وعصيتم أمر ربكم لا جرم زالت تلك النصرة. أما قوله تعالى: * (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول ظاهر قوله: * (حتى إذا فشلتم) * بمنزلة الشرط، ولا بد له من الجواب فأين جوابه؟
واعلم أن للعلماء ههنا طريقين: الأول: أن هذا ليس بشرط، بل المعنى، ولقد صدقكم الله وعده حتى إذا فشلتم، أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع، لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة، فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر، وعلى هذا القول تكون كلمة " حتى " غاية بمعنى " إلى " فيكون معنى قوله: * (حتى إذا) * إلى أن، أو إلى حين.
الطريق الثاني: أن يساعد على أن قوله: * (حتى إذا فشلتم) * شرط، وعلى هذا القول اختلفوا في الجواب على وجوه: الأول: وهو قول البصريين أن جوابه محذوف، والتقدير: حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منعكم الله نصره، وإنما حسن حذف هذا الجواب لدلالة قوله: * (ولقد صدقكم الله وعده) * عليه، ونظائره في القرآن كثيرة، قال تعالى: * (فان استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية) * (الأنعام: 35) والتقدير: فافعل، ثم أسقط هذا الجواب لدلالة هذا الكلام عليه، وقال: * (أمن هو قانت آناء الليل) * (الزمر: 9) والتقدير: أم من هو قانت كمن لا يكون كذلك؟
الوجه الثاني: وهو مذهب الكوفيين واختيار الفراء: أن جوابه هو قوله: * (وعصيتم) * والواو زائدة كما قال: * (فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه) * (الصافات: 103 - 104) والمعنى ناديناه، كذا ههنا، الفشل والتنازع صار موجبا للعصيان، فكان التقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم، فالواو زائدة، وبعض