مكة، وأما الأصوليون من المفسرين فقد اتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلفين، وهذا هو الأصح لوجوه: أحدها: أن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق. وثانيها: أنه تعالى علل الأمر بالاتقاء بكونه تعالى خالقا لهم من نفس واحدة، وهذه العلة عامة في حق جميع المكلفين بأنهم من آدم عليه السلام خلقوا بأسرهم، وإذا كانت العلة عامة كان الحكم عاما. وثالثها: أن التكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة، بل هو عام في حق جميع العالمين، وإذا كان لفظ الناس عاما في الكل، وكان الأمر بالتقوى عاما في الكل، وكانت علة هذا التكليف، وهي كونهم خلقوا من النفس الواحدة عامة في حق الكل، كان القول بالتخصيص في غاية البعد. وحجة ابن عباس أن قوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) * مختص بالعرب لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم. فيقولون أسألك بالله وبالرحم، وأنشدك الله والرحم، وإذا كان كذلك كان قوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) * مختصا بالعرب، فكان أول الآية وهو قوله: * (يا أيها الناس) * مختصا بهم لأن قوله في أول الآية: * (اتقوا ربكم) * وقوله بعد ذلك: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) * وردا متوجهين إلى مخاطب واحد، ويمكن أن يجاب عنه بأنه ثبت في أصول الفقه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها، فكان قوله: * (يا أيها الناس) * عاما في الكل، وقوله: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) *. خاصا بالعرب.
المسألة الثانية: أنه تعالى جعل هذا المطلع مطلعا لسورتين في القرآن: إحداهما: هذه السورة وهي السورة الرابعة من النصف الأول من القرآن. والثانية: سورة الحج، وهي أيضا السورة الرابعة من النصف الثاني من القرآن، ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى في هذه السورة بما يدل على معرفة المبدأ، وهو أنه تعالى خلق الخلق من نفس واحدة، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وكمال حكمته وجلاله، وعلل الأمر بالتقوى في سورة الحج بما يدل على كمال معرفة المعاد، وهو قوله: * (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) * (الحج: 1) فجعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد، ثم قدم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد، وتحت هذا البحث أسرار كثيرة.
المسألة الثالثة: اعلم أنه تعالى أمرنا بالتقوى وذكر عقبيه أنه تعالى خلقنا من نفس واحدة، وهذا مشعر بأن الأمر بالتقوى معلل بأنه تعالى خلقنا من نفس واحدة، ولا بد من بيان المناسبة بين هذا الحكم وبين ذلك الوصف، فنقول: قولنا إنه تعالى خلقنا من نفس واحدة، مشتمل على قيدين: أحدهما: أنه تعالى خلقنا، والثاني: كيفية ذلك التخليق، وهو أنه تعالي إنما خلقنا من نفس