المسألة الرابعة: العلم قد يكون بحيث يكتفي فيه بمفعول واحد، كما يقال: علمت زيدا، أي علمت ذاته وعرفته، وقد يفتقر إلى مفعولين، كما يقال: علمت زيدا كريما، والمراد منه في هذه الآية هذا القسم الثاني، إلا أن المفعول الثاني محذوف والتقدير: وليعلم الله الذين آمنوا متميزين بالايمان من غيرهم، أي الحكمة في هذه المداولة أن يصير الذين آمنوا متميزين عمن يدعي الايمان بسبب صبرهم وثباتهم على الاسلام، ويحتمل أن يكون العلم ههنا من القسم الأول، بمعنى معرفة الذات، والمعنى وليعلم الله الذين آمنوا لما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم، أي ليعرفهم بأعيانهم إلا أن سبب حدوث هذا العلم، وهو ظهور الصبر حذف ههنا.
أما قوله: * (ويتخذ منكم شهداء) * فالمراد منه ذكر الحكمة الثانية في تلك المداولة، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية قولان: الأول: يتخذ منكم شهداء على الناس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي، فان كونهم شهداء على الناس منصب عال ودرجة عالية. والثاني: المراد منه وليكرم قوما بالشهادة، وذلك لأن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر، وكانوا يتمنون لقاء العدو وأن يكون لهم يوم كيوم بدر يقاتلون فيه العدو ويلتمسون فيه الشهادة، وأيضا القرآن مملوء من تعظيم حال الشهداء قال تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * (آل عمران: 169) وقال: * (وجئ بالنبيين والشهداء) * (الزمر: 69) وقال: * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) * (النساء: 69) فكانت هذه المنزلة هي المنزلة الثالثة للنبوة، وإذا كان كذلك فكان من جملة الفوائد المطلوبة من تلك المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع الحوادث بإرادة الله تعالى فقالوا: منصب الشهادة على ما ذكرتم، فان كان يمكن تحصيلها بدون تسليط الكفار على المؤمنين لم يبق لحسن التعليل وجه، وإن كان لا يمكن فحينئذ يكون قتل الكفار للمؤمنين من لوازم تلك الشهادة، فإذا كان تحصيل تلك الشهادة للعبد مطلوبا لله تعالى وجب أن يكون ذلك القتل مطلوبا لله تعالى، وأيضا فقوله: * (ويتخذ منكم شهداء) * تنصيص على أن ما به حصلت تلك الشهادة هو من الله تعالى، وذلك يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى.
المسألة الثالثة: الشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء، والمقتول من المسلمين بسيف الكفار شهيدا، وفي تعليل هذا الاسم وجوه: الأول: قال النضر بن شميل: الشهداء أحياء لقوله: * (بل أحياء عند ربهم يرزقون) * (آل عمران: 169) فأرواحهم حية وقد حضرت دار السلام، وأرواح غيرهم لا تشهدها، الثاني: قال ابن الأنباري: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة، فالشهيد فعيل بمعنى مفعول، الثالث: سموا شهداء لأنهم يشهدون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين، كما قال تعالى: * (لتكونوا شهداء