صحة ما قلنا في تأويله وأنه استثناء على معنى الاستثناء المعروف الذي يثبت فيهم لما بعد حرف الاستثناء ما كان منفيا عما قبلهم، كما أن قول القائل: (ما سار من النس أحد الا أخوك) إثبات للأخ من السير ما هو منفي عن كل أحد من الناس، فكذلك قوله: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) * نفى عن أن يكون لاحد خصومة وجدل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوى باطلة عليه وعلى أصحابه بسبب توجههم في صلاتهم قبل الكعبة، إلا الذين ظلموا أنفسهم من قريش، فإن لهم قبلهم خصومة ودعوى باطلة بان يقولوا: إنما توجهتم إلينا وإلى قبلتنا لأنا كنا اهدى سبيلا، وأنكم كنتم بتوجهكم نحو بيت المقدس على ضلال وباطل. وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الحجة من أهل التأويل، فبين خطأ قول من زغم أن معنى قوله: (إلا الذين ظلموا منهم): ولا الذين ظلموا منهم، وأن " إلا " بمعنى الواو، لان ذلك لو كان معناه لكان النفي الأول عن جميع الناس أن يكونه لهم حجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تحولهم نحو الكعبة بوجوههم مبينا عن المعنى المراد، ولم يكن في ذكر قوله بعد ذلك: (إلا الذين ظلموا منهم) إلا التلبيس الذي يتعالى عن أن يضاف إليه، أو يوصف به. هذا مع خروج معنى الكلام - إذا وجهت " إلا " إلى معنى الواو، ومعنى العطف - من كلام العرب، وذلك أنه غير موجودة إلا في شئ من كلامها بمعنى الواو إلا مع استثناء سابق قد تقدمها، كقول القائل: سار القوم إلا عمرا إلا أخاك، بمعنى: إلا عمرا وأخاك، فتكون " إلا " حينئذ مؤدية عما تؤدى عنه الواو لتعلق " إلا " الثانية ب " إلا " الأولى، ويجمع فيها أيضا بين " إلا " والواو، فيقال: سار القوم إلا عمار وإلا أخاك، فتحذف إحداهما فتنوب الأخرى عنها، فيقال: سار القوم إلا عمرا وأخاك، أو إلا عمرا إلا أخاك، لما وصفنا قبل، وإذ كان ذلك كذلك فغير جائز لمدع من الناس أن يدعي أن " إلا " في هذا الموضع بمعنى الواو التي تأتي بمعنى العطف. وواضح فساد قول من زعم أن معنى ذلك: إلا الذين ظلموا منهم فإنهم لا حجة لهم فلا تخشوهم، كقول القائل في كلامه:
الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم المعتدي عليك، فإن ذلك لا يعتد بعداوته ولا بتركه الحمد لموضع العداوة. وكذلك الظالم لا حجة له، وقد سمي ظالما، لاجماع (1) جميع أهل التأويل على تخطئة ما ادعي من التأويل في ذلك. وكفى شاهدا على خطأ مقالته إجماعهم على تخطئتها، وظاهر بطلان قول من زعم أن الذين ظلموا ههنا ناس من العرب كانوا يهودا ونصارى، فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما سائر العرب فلم تكن لهم