دقة الملاحظة والتعمق في الفقه.
وليست هذه الندرة في الجمع بين هذين الجانبين في تاريخ العلماء لقصور الوقت فحسب عن الإلمام بأطراف الثقافات الإنسانية، والتعمق في حقل الاختصاص فحسب، وإنما لشئ آخر أيضا لا يقل أهمية عن سابقته فالذهنية التي تمارس الإلمام والإحاطة تختلف عن الذهنية التي تمارس الدقة والملاحظة، وقلما يتفق أن تجتمع هاتان الخاصتان في ذهن واحد.
ومنذ أول يوم حاول (الشهيد) أن يجمع بين هذين الجانبين في نشأته الفكرية. وقد وجدنا فيما تقدم من حديث عن نشأته الفكرية أنه مارس الدراسة منذ بداية حياته الدراسية في مختلف حقول المعرقة، وألم بمختلف المذاهب الإسلامية: فكان يقصد (دمشق ومصر)، وهما يومذاك حاضرتا العالم الإسلامي وجامعتا الدراسات الإسلامية الكبرى.
وكان يلم فيهما بمختلف الحلقات، ويجلس إلى مختلف الشيوخ وينصت إليهم بعناية، وبذلك استطاع أن يحيط إحاطة واسعة بمختلف (المذاهب الإسلامية) في الفقه والحديث والتفسير، وبمختلف ألوان ثقافة عصره.
وكانت هذه القابلية الفذة تبعث في نفسه اعتدادا بالنفس، فلما حاول أن يسافر إلى (القسطنطينية) ليلتقي ببعض المسؤولين الكبار هناك ويطلب التدريس في بعض المدارس عرض عليه أن يأخذ تعريفا من قاضي جهته.
فقد كان المتعارف عند الأتراك أن يصحب المراجع معه إلى العاصمة تعريفا به عن قاضي جهته. فأبى الشهيد أن يجيب هذا الطلب، وبطلب من القاضي تعريفا به.