ومن جناية التاريخ على أبطال الإنسانية أنه يحاول دائما أن يغطي سير المصلحين والعاملين بغطاء كثيف من الإبهام والغموض.
وليس بأيدينا عن شهادة (الشهيد) إلا فلتات من أقلام المؤرخين فلتت عن أقلامهم من غير اختيار، أو من دون أن يشعروا، وإلا الشئ اليسير الذي سجله لنا المنصفون من المؤرخين مطويا بالإبهام والغموض:
وليست حياة (الشهيد) وشهادته بدعا من حياة الشهداء من المجاهدين والعاملين، فقد كان المؤرخون يسيرون في الغالب في ركب الملوك وبلاط الملوك، وطغمة الجبابرة والمفسدين لقاء أجور زهيدة يلقونها إليهم، ولذات رخيصة من العيش يتيحونها لهم.
وكان نتيجة ذلك كله أن كان (للتاريخ الإسلامي) تاريخا مشوها مشوش المعالم لا يعبر إلا عن اتجاهات البلاط، ولا يدافع إلا عن تبذير الملوك والخلفاء وإسرافهم.
فكل شئ يحصل في البلاد من وجوه الفساد والتبذير محاط بهالة من التقديس، وكل حركة ترمي إلى إحاطة كيان هؤلاء الطغاة والفاسدين توسم بسمة الفساد والطغيان والإجرام:
وليس يتعجب القارئ بعد ذلك إذا وجد مؤرخا من هؤلاء الساقطين الذين يتبعون ركب الجبابرة بذلة وهوان، ليتلقوا لقمة ذليلة من العيشة ويلاحظ رخيصة في الحياة.
يقول الحنبلي بصدد الحديث عن أحداث سنة 886:
وفيها قتل محمد بن مكي العراقي الرافضي، كان عارفا بالأصول والعربية فشهد عليه بدمشق بانحلال العقيدة، واعتقاد مذهب النصيرية واستحلال الخمر الصرف، وغير ذلك من القبائح، فضربت عنقه بدمشق في جمادى الأولى، وضربت عنق رفيقه عرفة بطرابلس، وكان