فان قال: فلم جعل الجهر في بعض الصلوات ولا يجهر في بعض؟ قيل لان الصلوات التي يجهر فيها إنما هي صلوات تصلى في أوقات مظلمة فوجب ان يجهر فيها لان يمر المار فيعلم ان هاهنا جماعة فان أراد أن يصلى صلى لأنه ان لم ير جماعة تصلى سمع وعلم ذلك من جهة السماع والصلاتان اللتان لا يجهر فيهما فإنما هما صلاة تكون بالنهار وفي أوقات مضيئة فهي تعلم من جهة الرؤية فلا يحتاج فيها إلى السماع.
فان قال: فلم جعلت الصلوات في هذه الأوقات ولم تقدم ولم تؤخر؟ قيل لان الأوقات المشهورة المعلومة التي تعم أهل الأرض فيعرفها الجاهل والعالم أربعة غروب الشمس مشهور معروف فوجب عندها المغرب وسقوط الشفق مشهور فوجب عنده عشاء الآخرة وطلوع الفجر مشهور فوجب عنده الغداة وزوال الشمس وايفاء الفيئ مشهور معلوم فوجب عنده الظهر ولم يكن للعصر وقت معلوم مشهور مثل هذه الأوقات الأربعة فجعل وقتها الفراغ من الصلاة التي قبلها إلى أن يصير الظل من كل شئ أربعة اضعافه.
وعلة أخرى: ان الله عز وجل أحب ان يبدء الناس في كل عمل أولا بطاعة وعبادة فأمرهم أول النهار ان يبدءوا بعبادته ثم ينتشروا فيما أحبوا من مؤنة دنياهم فأوجب صلاة الفجر عليهم فإذا كان نصف النهار وتركوا ما كانوا فيه من الشغل وهو وقت يضع الناس فيه ثيابهم ويستريحون ويشتغلون بطعامهم وقيلولتهم فأمرهم ان يبدءوا بذكره وعبادته فأوجب عليهم الظهر ثم يتفرغوا لما أحبوا من ذلك فإذا قضوا ظهرهم وأرادوا الانتشار في العمل لآخر النهار بدءوا أيضا بعبادته ثم صاروا إلى ما أحبوا من ذلك فأوجب عليهم العصر ثم ينتشرون فيما شاؤوا من مؤنة دنياهم فإذا جاء الليل ووضعوا زينتهم وعادوا إلى أوطانهم بدؤا أولا لعبادة ربهم ثم يتفرغون لما أحبوا من ذلك فأوجب عليهم المغرب فإذا جاء وقت النوم وفرغوا مما كانوا به مشتغلين أحب ان يبدؤا أولا بعبادته وطاعته ثم يصيرون إلى ما شاؤوا ان يصيروا إليه من ذلك فيكونوا قد بدؤا في كل عمل بطاعته وعبادته