من حيث سلامة الأسباب والآلات هي امكان استعمال سائر الجوارح السليمة وذلك لا يتحقق على الكمال الا عند الاحتلام فان قيل الادراك امكان استعمال سائر الجوارح إن كان ثابتا فاما امكان استعمال الآلة المخصوصة وهو قضاء الشهوة على سبيل الكمال فليس بثابت لان كمالها بالانزال والاحتلام سبب لنزول الماء على الأغلب فجعل علما على البلوغ ولان الله تعالى أمر بابتغاء الولد وأخبر انه مكتوب له بقوله تبارك وتعالى وابتغوا ما كتب الله لكم والتكليف بابتغاء الولد إنما يتوجه في وقت لو ابتغى الولد لوجد ولا يكون ذلك الا في خروج الماء للشهوة وذلك في حق الصبي بالاحتلام في المتعارف ولان عند الاحتلام يخرج عن حيز الأولاد ويدخل في حيز الآباء حتى يسمى أبا فلان لا ولد فلان في المتعارف لان عنده يصير من أهل العلوق فكان الاحتلام علما على البلوغ وإذا ثبت أن البلوغ يثبت بالاحتلام يثبت بالانزال لان ما ذكرنا من المعاني يتعلق بالنزول لا بنفس الاحتلام الا أن الاحتلام سبب لنزول الماء عادة فعلق الحكم به وكذا الاحبال لأنه لا يتحقق بدون الانزال عادة فإن لم يوجد شئ مما ذكرنا فيعتبر البلوغ بالسن وقد اختلف العلماء في أدنى السن التي يتعلق بها البلوغ قال أبو حنيفة رضي الله عنه ثماني عشرة سنة في الغلام وسبع عشرة في الجارية وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله خمس عشرة سنة في الجارية والغلام جميعا وجه قولهم إن المؤثر في الحقيقة هو العقل وهو الأصل في الباب إذ به قوام الأحكام وإنما الاحتلام جعل حدا في الشرع لكونه دليلا على كمال العقل والاحتلام لا يتأخر عن خمس عشر سنة عادة فإذا لم يحتلم إلى هذه المدة علم أن ذلك لآفة في خلقته والآفة في الخلقة لا توجب آفة في العقل فكان العقل قائما بلا آفة فوجب اعتباره في لزوم الأحكام وقد روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه انه عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام وهو ابن أربع عشرة سنة فرده وعرض وهو ابن خمس عشرة فأجازه فقد جعل عليه الصلاة والسلام خمس عشرة حدا للبلوغ ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن الشرع لما علق الحكم والخطاب الاحتلام بالدلائل التي ذكرناها فيجب بناء الحكم عليه ولا يرتفع الحكم عنه ما لم يتيقن بعدمه ويقع اليأس عن وجوده وإنما يقع اليأس بهذه المدة لان الاحتلام إلى هذه المدة متصور في الجملة فلا يجوز إزالة الحكم الثابت بالاحتلام عنه مع الاحتمال على هذا أصول الشرع فان حكم الحيض لما كان لازما في حق الكبيرة لا يزول بامتداد الطهر ما لم يوجد اليأس ويجب الانتظار لمدة اليأس لاحتمال عود الحيض وكذا التفريق في حق العنين لا يثبت ما دام طمع الوصول ثابتا بل يؤجل سنة لاحتمال الوصول في فصول السنة فإذا مضت السنة ووقع اليأس الآن يحكم بالتفريق وكذا أمر الله سبحانه وتعالى باظهار الحجج في حق الكفار والدعاء إلى الاسلام إلى أن يقع اليأس عن قبولهم فما لم يقع اليأس لا يباح لنا القتال فكذلك ههنا ما دام الاحتلام يرجى يجب الانتظار ولا يأس بعد مدة خمس عشرة إلى هذه المدة بل هو مرجو فلا يقطع الحكم الثابت بالاحتلام عنه مع رجاء وجوده بخلاف ما بعد هذه المدة فإنه لا يحتمل وجوده بعدها فلا يجوز اعتباره في زمان اليأس عن وجوده (وأما) الحديث فلا حجة فيه لأنه يحتمل انه أجاز ذلك لما علم عليه الصلاة والسلام انه احتمل في ذلك الوقت ويحتمل أيضا أنه أجاز ذلك لما رآه صالحا للحرب محتملا له على سبيل الاعتياد للجهاد كما أمرنا باعتبار سائر القرب في أول أوقات الامكان والاحتمال لها فلا يكون حجة مع الاحتمال وإذا أشكل أمر الغلام المراهق في البلوغ فقال قد بلغت يقبل قوله ويحكم ببلوغه وكذلك الجارية المراهقة لان الأصل في البلوغ هو الاحتلام على ما بينا وأنه لا يعرف الا من جهته فالزمت الضرورة قبول قوله كما في الاخبار عن الطهر والحيض والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) المجنون فلا يزول الحجر عنه الا بالإفاقة فإذا أفاق رشيدا أو سفيها فحكمه في ذلك حكم الصبي وقد ذكرناه (وأما) الرقيق فالحجر يزول عنه بالاعتاق مرة وبالاذن بالتجارة أخرى الا أن الاعتاق يزيل الحجر عنه على الاطلاق والاذن بالتجارة لا يزل الا في التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع (وأما) السفيه فلا حجر عليه عن التصرف أصلا عند أبي حنيفة رضي الله عنه فلا يتصور الزوال (وأما) على مذهبهم فزواله عند أبي يوسف بضده وهو الاطلاق من القاضي فكما لا ينحجر الا بحجره
(١٧٢)