على تجربتها على الآدميين، ألم يتميز هؤلاء جميعا بعقول واسعة ومدارك قد تهون أمامها مدارك الآخرين؟ مع ذلك، فما كان من شأنهم إلا التقتيل والتدمير والاعتداء على مقدسات الحضارة ومخلفات الجهود الإنسانية، وعلى كرامة الحياة والأحياء وخير الوجود!
ذلك أن عقولهم لم تواكبها الضمائر السليمة والعواطف الكريمة! فحيث لا ضمير ولا عاطفة، لا نفع من العقل، بل قل إنه إلى المضرة أقرب.
ولا أريد هنا التفصيل بين مختلف قوى الإنسان من عاطفة وضمير وعقل وما إليها، فهي ولا شك تتفاعل وتتعاون. غير أن ما أردته بالعقل هو القوة التي تعقل الأمور على صعيد يربط السبب بالنتيجة ويحكم بين العلة والمعلول، فيدور في نطاق من الأرقام والحدود التي لا تتأثر، بحد ذاتها، بالبيئة الإنسانية الخاصة والعامة. وعلى هذا الضوء أجزت هذا التفصيل.
إذن، فالعقل المكتشف لا بد لصاحبه من ضمير وعاطفة يدفعانه في طريق الخير، وما يصح بهذا الشأن في المشترع يصح في المشترع له. فالأفراد الذين يطلب إليهم أن يسيروا على هذا النظام الخير أو ذاك، لا بد لهم من اقتناع وجداني، إلى جانب الاقتناع العقلي المجرد، يدفعهم في طريق التهذيب الإنساني الرفيع، لبناء المجتمع الصالح. لا بد لهم من التمرس بالفضائل الأخلاقية التي تحيط الأنظمة والتشريعات بحصون رفيعة منيعة.
لا بد لهم من أن يكونوا خيرين!
لذلك راح علي يحرك في الأفراد عواطف الخير على ما رأينا، ويوقظ فيهم ما غشته الأيام من الضمائر السليمة. ويعمل على إنمائها وينصح برعايتها.
توجه علي إلى الضمائر بتوصياته وخطبه وعهوده وأقواله جميعا. لأنه لم يفته أن لتهذيب الخلق شأنا في رعاية النظم العادلة، وفي بث الحرارة في المعاملات بين الناس. ولم يفته كذلك، أن هذا التهذيب يطلب لذاته بما هو من القيم الإنسانية، كما يطلب لحماية العدالة الاجتماعية وسننها بما هو ضبط لنوازع وتوجيه لأخرى. وقد ساعده في ذلك ما أوتي من مقدرة خارقة ينفذ بها إلى أعماق الناس أفرادا وجماعات، فيدرك ميولهم وأهواءهم، ويعرف طباعهم وأخلاقهم، فيزن خيرها وشرها، ثم يصور، ويطور، ويأمر وينهى، على ضوء ثقته الراسخة بالضمير الإنساني الذي يتوجه إليه.