إليه. وهذا ما يؤكده علي بقوله هذا: (أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه!) وهذا ما يؤكده أيضا في عبارة يرجع إليها كلما تحدث عن اصطناع الخير بين الناس: (والفضل في ذلك للبادئ) وإذا ننتقل إلى النظر في الخير ومعناه على صعيد العلاقات بين الناس، أمكننا أن نجزي آراء ابن أبي طالب في المجاري التالية:
أولا، الخير بين الناس يكمن في أن يتعاونوا ويتساندوا، وأن يعمل واحدهم من أجل نفسه والآخرين سواء بسواء، وألا يكون في هذا العمل رياء من جانب هذا ولا إكراه من جانب ذاك لكي (يعمل في الرغبة لا في الرهبة) على حد ما يقول علي، ثم أن يضحي بالقليل والكثير توفيرا لراحة الآخرين واطمئنان الخلق بعضهم إلى بعض، وأن تأتي هذه التضحية مبادرة لا بعد سؤال ولا بعد قسر وإجبار. وكل ما من شأنه أن ينفع ويفيد، سواء أكان ذلك على صعيد مادي أو روحي، كان خيرا.
ثانيا، يرى علي أن الخير لا يأتي إلا عملا أولا، ثم قولا، لأن الإنسان يجب أن يكون واحدا كالوجود الواحد، وأن يساند بعضه بعضا وفاء لهذه القاعدة: فإن قال فعل، وإن فعل قال. ومن روائع ابن أبي طالب كلمة قالها في رجل يرجو الله في أمر ولا يعمل من أجل هذا الرجاء: (يدعي بزعمه أنه يرجو الله! كذب والعظيم! ما باله لا يتبين رجاءه في عمله، فكل من رجا عرف رجاءه في عمله!) أما إذا عملت خيرا، فمن حقك عند ذاك أن تقول خيرا: (قل خيرا وافعل خيرا!) ثالثا، يفسح علي في المجال أمام قوى الخير لأن تنطلق أبعد ما يكون الانطلاق، وذلك بأن يجعل قبول التوبة عن الشر قاعدة يعمل بها. فإن أثم المرء مسيئا إلى الآخرين، فإن في التوبة بابا يلجه من جديد إلى عالم الخير إذا شاء. يقول علي: (إقبل عذر من اعتذر إليك، وأخر الشر ما استطعت). ويعرف التاريخ مقدار الإساءة التي لحقت بعلي عن طريق أبي موسى الأشعري، ويعرف كذلك أن عليا لا ينزع إلا عن مذهبه أية كانت الظروف والصعوبات، لذلك نراه يبعث إلى أبي موسى قائلا: (أما بعد، فإنك امرؤ ضللك الهوى، واستدرجك الغرور، فاستقل الله يقلك عثرتك، فإن من استقال الله أقاله!