وإذا كان له في ذم أهل الخيانة والغدر والظلم قول كثير، فما ذاك إلا لأنه يعترف، ضمنا، أن الإنسان ممكنا إصلاحه ولو طال على ذلك الزمن. فإن المتفائل وحده هو الذي يزجر المسئ كما يثيب المحسن أملا منه بتقويم الاعوجاج في الخلق والمسلك. ولو لم يكن لابن أبي طالب مثل هذا الأمل، لما استطاع احتمال ما لا يحتمل من مكاره الدهر التي جرها عليه المسيئون، ولما صبر على ما يكره! وهو إن قال في الدنيا وأهلها:
(فإنما أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية، يهر بعضها بعضا، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها) فإنما يقول ذلك لأنه قاسى من غدر الغادرين وفجر الفاجرين ما آلمه وآذاه. فوبخهم هذا التوبيخ الموجع إيثارا منه لمن لا يفجر ولا يغدر ولا يكون كلبا عاويا ولا سبعا ضاريا ولا عزيزا يأكل ذليلا أو كبيرا يقهر صغيرا! يقول ذلك ثم يحارب السبع الضاري والعزيز الظالم والكبير الجائر كما يحارب الطبيب الجراثيم إيثارا منه لسلامة البدن والروح، بل إيثارا منه للحياة على الموت، وتفاؤلا بحسن النجاة!
إذن فالإمام علي، وهو الذي يحترم الحياة: أعظم ما خلق الله، ويحترم الناس الأحياء أجمل نماذج هذه الحياة، عظيم الثقة بالخير الإنساني عظيم التفاؤل بالانسان يريده حرا كما يجب أن يكون!
ولولا هذه الثقة وهذا التفاؤل لما كان من أمره مع الناس ما كان، ولما قال: (لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوءا وأنت تجد لها في الخير محتملا!) ثم لما توجه إلى الضمير الفردي الجماعي بوصاياه التي تجمع عمق الفهم وحرارة العاطفة إلى سمو الغاية ونبل المقاصد. هذه الوصايا التي أرادها حصنا منيعا للأخلاق العامة، والعاطفة الإنسانية، وتركيز العمل النافع على أسس الإيجابية في العقل والضمير. واستنادا إلى هذه الثقة بالضمير الإنساني، وتحصينا للعمل الخير الشريف، نراه يقيم على الناس أرصادا من أنفسهم وعيونا من جوارحهم فيخاطبهم قائلا: (اعلموا أن عليكم رصدا من أنفسكم وعيونا من جوارحكم وحفاظ صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم!) واستنادا إلى هذه الثقة بخير الوجود وعدله، وإلى عظمة الحياة والأحياء، يخاطب علي ابن أبي طالب أبناء زمانه بما يوقظهم على أن الحياة حرة لا تطيق من القيود إلا ما كان