سببا في مجراها وواسطة لبقائها وقبسا من ضيائها وناموسا من نواميسها. وأنها لا يطيب لها البقاء في مهد الأمس. فعليهم ألا يحاولوا غلها وتقييدها وإلا أسنت وانقلبت إلى فناء.
فالحياة جميلة، كريمة، حرة، خيرة كالوجود أبيها، تحفظ نفسها بقوانينها الثابتة لا بما يريد لها المتشائمون من قوانين.
وهي متجددة أبدا، متطورة أبدا، لا ترضى عن تجددها وتطورها بديلا وهما أسلوب تنهجه في فتوحاتها التي تستهدف خيرا أكثر وبقاء أصلح. وملاحظة ابن أبي طالب الدقيقة العميقة للحياة ونواميسها وهي أعظم موجودات الوجود الخير، مكنت في نفسه الإيمان بثورية الحياة المتطلعة أبدا إلى الأمام، المتحركة أبدا في اتجاه الخير الأكثر. وثورية الحياة أصل تحركها وسبب تطورها من حسن إلى أحسن. ولهذا كانت الحياة حرة غير مقيدة إلا بشروط وجودها. وثورية الحياة أصل تحرك المجتمع الإنساني وسبب تطوره. ولولا هذه الخاصة لكانت الحياة شيئا من الموت والأحياء أشياء من الجماد.
آمن ابن أبي طالب بثورية الحياة أيمانا أشبه بالمعرفة، أو قل هو المعرفة. فترتب عليه إيمان عظيم بأن الأحياء يستطيعون أن يصلحوا أنفسهم وذلك بأن يماشوا قوانين الحياة.
ويستطيعون أن يكونوا أسياد مصائرهم وذلك بأن يخضعوا لعبقرية الحياة. وقد سبق أن قلنا في حديث مضى إن ثورية الحياة ألصق مزايا الحياة بها وأعظمها دلالة على إمكاناتها العظيمة. وهي تستلزم من المؤمنين بها أن يعملوا على أساس من الثقة المطلقة بالتطور المحتوم، وأن ينبهوا الخواطر إليه، وأن يستخدموا الدليل والبرهان في زجر المحافظين عن كل تصرف غبي يتوهم أصحابه أنهم يستطيعون الوقوف في وجه الحياة الثائرة المتطورة بثورتها.
بهذه الثقة وبهذا الإيمان خاطب ابن أبي طالب الإنسان بقوله: (فإنك أول ما خلقت جاهلا ثم علمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر، ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك!) ففي هذا القول اعتراف بأن الحياة متطورة، وأن التعلم إنما هو الانتفاع بما تخزن الحياة من عبقريتها في صدور أبنائها، على ما قلنا سابقا.
وفيه إيمان بالقابلية الإنسانية العظيمة للتقدم، أو قل للخير. وما دعوته الحارة إلى المعرفة التي تكشف كل