بمحصور في مثل هذا النطاق. فالخير إذن أعظم! ثم إن الخير يحتوي السعادة ولا تحتويه، فهو أشمل! أضف إلى ذلك أن بعض الناس قد يسعدون بما لا يشرف الإنسان، وأنهم قد يسعدون بما يؤذي الآخرين، وأنهم قد يتفهون ويترهلون وهم يحسبون أنهم بذلك سعداء. أما الخير فهو غير السعادة إذ يكون معدنها هذا المعدن. فهو السعادة منوطة بسعادة الناس جميعا. وهو الرضى عن أحوال الجسد والعقل والضمير! لذلك أكثر علي من استخدام هذا اللفظ في دعوته الحارة إلى كل ما يرفع من شأن الإنسان!
ولم أعثر في آثار ابن أبي طالب على لفظة (السعادة) إلا مرة واحدة. ولكنه لا يخرج بمعناها الذي يقصد عن مفهوم الخير بما يحملها من حدوده ومعانيه. إما العبارة التي وردت فيها لفظة (السعادة) فهي هذه: (من سعادة الرجل أن تكون زوجته صالحة وأولاده أبرارا وإخوانه شرفاء وجيرانه صالحين ورزقه في بلده).
فانظر كيف ربط سعادة المرء بسعادة المحيطين به من أفراد عائلته ثم بسعادة إخوانه وجيرانه جميعا. بعد ذلك ناط سعادة هذا الرجل بسعادة بلاده مستندا إلى أنها بلاد تنتج الرزق لجميع أبنائها وهو واحد منهم!
تاسعا، إن خير الوجود وخير الإنسان يستلزمان، بالضرورة، الثقة بالضمير الإنساني ثقة تجعله حكما أخيرا في ما يضر وينفع. ولنا في هذا الموضوع رأي نفصله نقول:
من روائع ابن أبي طالب ما يخاطب به العقل وحده. ومنها ما يخاطب الضمير.
وأكثرها مما يتوجه به إلى العقل والضمير مجتمعين. أما تلك التي يخاطب بها العقل، فقل إنها الغاية في الأصالة وإنها نتيجة محتومة لنشاط العقل الذي لاحظ ودقق وتمرس بخير الزمان وشره، وعرف من التجارب كل ما يكشف له عن الحقائق ويجليها، فإذا هي مصوغة على قواعد هندسية ذات حدود وأبعاد لشدة ما ترتبط بالحقائق، ومظهرة في أروع إطار فني لشدة ما ترتبط بالجمالية التعبيرية، مما يجعلها، من حيث المادة والشكل، في أصول الأدب الكلاسيكي العربي.
وفي هذا النوع من الحكم الموجهة إلى العقل، نرى عليا يصور تاركا للناس أن يحكموا بما يرون. فيأخذوا إذا شاؤوا أو يتركوا. لذلك لا نرى في هذا النوع من الحكم صيغ الطلب. إنما نرى حكما صيغت بقالب خبري خالص جرد من صور الأمر والنهي جميعا،