وفي الفقرة الثانية من الخطبة توجه الإمام إلى مكان الحمية من السامعين إلى مثار العزيمة والنخوة من نفس كل عربي، وهو شرف المرأة. وعلي يعلم أن من العرب من لا يبذل نفسه إلا للحفاظ على سمعة امرأة وعلى شرف فتاة، فإذا هو يعنف هؤلاء القوم على القعود دون نصرة المرأة التي استباح الغزاة حماها ثم انصرفوا آمنين، ما نالت رجلا منهم طعنة ولا أريق لهم دم.
ثم إنه أبدى ما في نفسه من دهش وحيرة من أمر غريب: (فإن أعداءه يتمسكون بالباطل فيناصرونه، ويدينون بالشر فيغزون الأنبار في سبيله، فيما يقعد أنصاره حتى عن مناصرة الحق فيخذلونه ويفشلون عنه.
ومن الطبيعي أن يغضب الإمام في مثل هذا الموقف، فإذا بعبارته تحمل كل ما في نفسه من هذا الغضب فتأتي حارة شديدة مسجعة مقطعة ناقمة: فقبحا لكم حين صرتم غرضا يرمى: يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون. ويعصى الله وترضون!) وقد تثور عاطفته وتتقطع فإذا بعضها يزحم بعضا على مثل هذه الكلمات المتقطعة المتلاحقة: (ما ضعفت، ولا جبنت، ولا خنت، ولا وهنت!) وقد تصطلي هذه العاطفة بألم ثائر يأتيه من قوم أراد لهم الخير وما أرادوه لأنفسهم لغفلة في مداركهم ووهن في عزائمهم فيخطبهم بهذا القول الثائر الغاضب قائلا: (ما لي أراكم أيقاظا نوما، وشهودا غيبا، وسامعة صماء، وناطقة بكماء الخ) والخطباء العرب كثيرون، والخطابة من الأشكال الأدبية التي عرفوها في الجاهلية والإسلام ولا سيما في عصر النبي والخلفاء الراشدين لما كان لهم بها من حاجة. أما خطيب العهد النبوي الأكبر فالنبي لا خلاف في ذلك. أما في العهد الراشدي وفي ما تلاه من العصور العربية قاطبة، فإن أحدا لم يبلغ ما بلغ إليه علي بن أبي طالب في هذا النحو. فالنطق السهل لدى علي كان من عناصر شخصيته وكذلك البيان القوي بما فيه من عناصر الطبع والصناعة جميعا. ثم إن الله يسر له العدة الكاملة لما تقتضيه الخطابة من مقومات أخرى على ما مر بنا. فقد ميزه الله بالفطرة السليمة، والذوق الرفيع، والبلاغة الآسرة، ثم بذخيرة.