ويبلغ أسلوب علي قمة الجمال في المواقف الخطابية، أي في المواقف التي تثور بها عاطفته الجياشة، ويتقد خياله فتعتلج فيه صور حارة من أحداث الحياة التي تمرس بها. فإذا بالبلاغة تزخر في قلبه وتتدفق على لسانه تدفق البحار. ويتميز أسلوبه، في مثل هذه المواقف، بالتكرار بغية التقرير والتأثير، وباستعمال المترادفات وباختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين. وقد تتعاقب فيه ضروب التعبير من إخبار إلى استفهام إلى تعجب إلى إلى استنكار. وتكون مواطن الوقف فيه قوية شافية للنفس. وفي ذلك ما فيه من معنى البلاغة وروح الفن. وإليك مثلا على هذا خطبة الجهاد المشهورة، وقد خطب علي بها الناس لما أغار سفيان بن عوف الأسدي على مدينة الأنبار بالعراق وقتل عامله عليها:
(هذا أخو غامد (1) قد بلغت خيله الأنبار وقتل حسان بن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها وقتل منكم رجالا صالحين.
(وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينزع حجلها، وقلبها، ورعاثها، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم، ولا أريق لهم دم، فلو أن امرءا مسلما مات من بعد هذا أسفا، ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا.
(فيا عجبا. والله يميت القلب ويجلب الهم اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم. فقبحا لكم حين صرتم غرضا يرمى: يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون ويعصى الله وترضون!) فانظر إلى مقدرة الإمام في هذه الكلمات الموجزة. فإنه تدرج في إثارة شعور سامعيه حتى وصل بهم إلى ما يصبو إليه. وسلك إلى ذلك طريقا تتوفر فيه بلاغة الأداء وقوة التأثير.
فإنه أخبر قومه بغزو سفيان بن عوف الأنبار وفي ذلك ما فيه من عار يلحق بهم. ثم أخبرهم بأن هذا المعتدي إنما قتل عامل أمير المؤمنين في جملة ما قتل، وبأن هذا المعتدي لم يكتف بذلك بل أغمد سيفه في نحور كثيرة من رجالهم وأهليهم.