منيرا، في فلك دائر، وسقف سائر الخ). فإنك لو حاولت إبدال لفظ مسجوع في هذه البدائع جميعا، بآخر غير مسجوع، لعرفت كيف يخبو إشراقها، ويبهت جمالها، ويفقد الذوق فيها أصالته ودقته وهما الدليل والمقياس. فالسجع في هذه الأقوال العلوية ضرورة فنية يقتضيها الطبع الذي يمتزج بالصناعة امتزاجا حتى لكأنهما من معدن واحد يبعث النثر شعرا له أوزان وأنغام ترفق المعنى بصور لفظية من جوها ومن طبيعتها.
ومن سجع الإمام آيات ترد النغم على النغم ردا جميلا، وتذيب الوقع في الوقع على قرارات لا أوزن منها على السمع ولا أحب ترجيعا. ومثال ذلك ما ذكرناه من سجعاته منذ حين، ثم هذه الكلمات الشهيات على الأذن والذوق جميعا: (أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فاعمل في خيرا، وقل خيرا!) وإذا قلنا إن أسلوب علي تتوفر فيه صراحة المعنى وبلاغة الأداء وسلامة الذوق، فإنما نشير إلى القارئ بالرجوع إلى (روائع نهج البلاغة) هذا ليرى كيف تتفجر كلمات علي من ينابيع بعيدة القرار في مادتها، وبأية حلة فنية رائعة الجمال تمور وتجري.
وإليك هذه التعابير الحسان في قوله: (المرء مخبوء تحت لسانه) وفي قوله: (الحلم عشيرة) أو في قوله: (من لان عوده كثفت أغصانه) أو في قوله: (كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع) أو في قوله أيضا: (لو أحبني جبل لتهافت). أو في هذه الأقوال الرائعة: (العلم يحرسك وأنت تحرس المال. رب مفتون بحسن القول فيه. إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه. ليكن أمر الناس عندك في الحق سواء. افعلوا الخير ولا تحقروا منه شيئا فإن صغيره كبير وقليله كثير.
هلك خزان المال وهم أحياء. ما متع غني إلا بما جاع به فقير!).
ثم استمع إلى هذا التعبير البالغ قمة الجمال الفني وقد أراد به أن يصف تمكنه من التصرف بمدينة الكوفة كيف شاء قال: (ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها...) فأنت ترى ما في أقواله هذه من الأصالة في التفكير والتعبير، هذه الأصالة التي تلازم الأديب الحق بصورة مطلقة ولا تفوته إلا إذا فاتته الشخصية الأدبية ذاتها.