كأن مكاكي الجواء غدية * نشاوى سلاف من رحيق مفلفل كأن السباع فيه غرقى عشية * بأرجائه القصوى، أنا بيش عنصل فأنت ترى إلى امرئ القيس كيف يلحظ أن المطر قد أسقط نخل تيماء كله، وجرف أبنيتها فلم يبق منها إلا المشيد بالجنادل والصخور. أما جبل (ثبير) المعتز بشموخه على ما ما حوله من الأرض الواطئة، فقد غطاه المطر إلا رأسه، فبدا كشيخ قوم ملتف بكساء مخطط. وتتابع الأمطار طوفانها حول الجبال ثم تلقي أثقالها جميعا في الصحارى التي ظلت زمنا قاحلة لا نبت فيها ولا رواء، فإذا بها تنبت عشبا وزهرا ملونا يشبه الثياب الملونة الحسناء التي ينشرها التاجر اليماني إمام أعين الناس. وقد أحسن المطر إلى هذه الصحارى المجدبة فإذا هي رياض زاهية تغني بها الطير طربة سكرى.
أما الوحوش الضارية التي كانت تستبيح لنفسها افتراس الضعيف من الحيوان والطير، فقد ذلها المطر وأغرقها فطفت على الماء كأنها جذور البصل البري.
وهكذا يبدو المطر في خاطر الشاعر الجاهلي الكبير، الذي يتابع رحلته حتى النهاية، وكأنه يمثل قوة الوجود المدبرة. فهو قوي عادل كريم ينصر الضعفاء الممثلين بالأرض الواطئة وصغار الطير، فيملأ الوادي بالنبت والزهر واللون ويدخل الفرحة على قلوب العصافير فتطرب وتغني. ويداعب الأقوياء الممثلين بالجبال التي يضايقها من كل جانب ويضعف من شأنها. ويفتك بذوي البطش الممثلين بالسباع الضارية فيقهرها ويغرقها ويجعلها تافهة!
وهذا علي يحس أمام الغيث ما أحسه امرؤ القيس من تمثيله القوة العادلة الكريمة، فيقول في خاتمة حديث طويل:
(فلما ألقت السحائب بعاع ما استقلت به (1) من العبء المحمول عليها، أخرج به من هوامد الأرض النبات (2) ومن زعر الجبال الأعشاب (3) فهي تبهج بزينة رياضها