نور الأفهام في علم الكلام - السيد حسن الحسيني اللواساني - ج ١ - الصفحة ٣٨٩
ما عدا زيد بن أرقم، فإنه كان ممن حضر الغدير، ولما استشهده الإمام (عليه السلام) يومئذ كتم الشهادة، وأنكر ما كان قد سمعه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الغدير، فدعا عليه الإمام، وبذلك ابتلي الرجل بالبرص، وعميت عيناه بعد أيام قليلة [٥].
ثم قام القوم وانصرفوا بأجمعهم، وكثر الخلاف واللغط في خلافة أبي بكر، واشتدت الخصومات بين الناس في المجامع والمحافل، وارتفعت الأصوات في المسجد، وكادت الفتنة أن تقع حتى فرقهم عمر.
ثم لما كان الغد، اجتمع خلق كثير أيضا في المسجد، فقام عندئذ أبو بكر وصعد منبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجلس مجلسه، فأنكر ذلك جمع من وجوه المهاجرين والأنصار، وهموا أن يتهاجموا عليه وينزلوه من مجلسه.
ثم اجتمعوا بينهم يتناجون ويتشاورون في ذلك، إلى أن اتفقت آراؤهم على استشارة علي (عليه السلام) في ذلك، فقاموا وانصرفوا إليه، ودخلوا عليه، واستشاروه في الأمر.
فمنعهم أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ذلك، حذرا من وقوع الفتنة والشر، واضطراره حينئذ بالدخول معهم، وأن ذلك مخالف لما أمره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به من الصبروكظم الغيظ وإغماد السيف.
ثم إنه (عليه السلام) أمرهم بالانصراف إلى أبي بكر، ووعظه وتذكيره بما سمعوه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمر الخلافة ووصاية علي (عليه السلام).
فرجع القوم إلى المسجد وأحدقوا بالمنبر، وعليه أبو بكر، وكان يوم الجمعة، فقام أولهم خالد بن سعيد الأموي، وسبق أصحابه في وعظ الرجل بقوله: اتق الله يا أبا بكر! ثم أطنب في نصيحته وتذكيره بوصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي (عليه السلام) إلى أن اعترضه ابن الخطاب وقال له: اسكت يا خالد! فلست من أهل المشورة ولا ممن يقتدى برأيه، فرد عليه خالد بغلظة ونهره بشدة وقال له: اسكت أنت يا بن الخطاب! فإنك تنطق على لسان غيرك، وأيم الله لقد علمت قريش أنك من ألئمها حسبا، وأدناها نسبا ومنصبا، وأخسهم قدرا، وأخملهم ذكرا، وأقلهم عناء عن الله ورسوله، وأنك لجبان في الحروب، بخيل في المال، لئيم العنصر، ما لك في قريش من فخر، ولا في الحروب من ذكر، وأنك في هذا الأمر بمنزلة الشيطان: (إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك) [٦] إلى آخر كلامه.
ثم قام سلمان، ثم أبوذر، ثم المقداد، ثم بريدة، ثم عمار، ثم بقية أصحابهم رضي الله عنهم الذين أنكروا على أبي بكر تقدمه، وكل منهم أطنب في الاعتراض عليه، ووعظه وتذكيره بوصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتعيينه عليا (عليه السلام) للخلافة بعده.
ثم أقبل كل منهم على الذين بايعوا الرجل، وأطنبوا في الوعظ لهم والانتقاد عليهم، ولومهم على بيعتهم له. وأطالوا في ذلك بما لا يحتمل المقام ذكر جميعها، على ما هو مذكور بتفاصيله في كتب الأحاديث والتواريخ والتفاسير، ومن أرادها فليراجع المجلد الثامن من البحار [٧] وأمثاله من الكتب المطولة [٨].
وفي كل ذلك كان الرجل على المنبر ساكتا متفكرا، إلى أن نادى في الجموع برفيع صوته:
يا قوم وليتكم ولست بخيركم وعلي فيكم، أقيلوني أقيلوني.
فقام إليه عمر مغضبا وقال له: انزل يا لكع - أي: اللئيم الأحمق - إذا كنت لا تقوم بحجج قريش، لم أقمت نفسك هذا المقام، والله لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة.
فلم يرد عليه أبو بكر بشيء، ونزل من علا المنبر، وانصرف إلى بيته لم يخرج منه ثلاثة أيام.
ولما كان اليوم الرابع، أقبل إليه خالد بن الوليد في ألف مقاتل، ثم سالم في ألف مقاتل، ثم معاذ بن جبل في ألف مقاتل، ثم رابع لهم في ألف مقاتل، ولما تكاملوا أربعة آلاف شاهرين السيوف، يقدمهم عمر، اجتمعوا لديه، ودعوه للخروج إلى المسجد، فأجابهم الرجل إلى ذلك، وانطلق معهم.
ولما دخلوا المسجد وجدوا عليا (عليه السلام) في ناحية منه، وقد أحاط به وجوه الصحابة واحتفوا حوله، فجرد عمر سيفه، ونادى فيهم برفيع صوته: والله يا أصحاب علي لئن ذهب الرجل منكم يتكلم بالذي تكلم به بالأمس لنأخذن الذي فيه عيناه!
فقام إليه خالد بن سعيد وصرخ عليه مجابها له بشدة وتهديد، وارتفعت الأصوات من الجانبين، وكثر الغوغاء، وكادت الفتنة أن تقع بشدة.
فأمر أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أصحابه بالجلوس والسكوت وإطفاء النائرة وإخماد الشر، فجلسوا وسكتوا.
ثم قام سلمان (رضي الله عنه) وأخذ يذكر ما سمعه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ارتداد كثير من أمته بعد وفاته، واهتمامهم بقتل خليفته ووصيه، كما قال تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) [٩].
إلى أن قام إليه عمر وهم أن يبطش به، فوثب إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخذ بمجامعه وجلد به الأرض، وقال له: " يا بن الصهاك الحبشية! لولا كتاب من الله سبق، وعهد من الله تقدم، لأريتك أينا أضعف ناصرا وأقل عددا " [١٠]. ثم توجه (عليه السلام) نحو أصحابه، وأمرهم بالانصراف إلى منازلهم، وخرج هو (عليه السلام) وحلف أن لا يدخل المسجد إلا لزيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لقضية يقضيها.
وعندئذ أمن القوم من بطشه، وبذلك صفا لهم الأمر، وسعوا بكل جد وجهد وقوة وبطش في تثبيت إمارة أبي بكر إلى أن بلغهم أن كثيرا من الصحابة تستروا في بيوتهم، حذرا من إكراههم على البيعة.
فعند ذلك شمر عمر ذيله وشد وسطه، وقام بجموعه يطوف في المدينة، وينادي برفيع صوته في شوارعها يقول: ألا أن أبا بكر قد بويع، فهلموا إلى البيعة.
ثم جعل يهاجم دور المتسترين بجموعه، ويخرجون كلا منهم إلى المسجد جبرا، ويأخذون منه البيعة كرها، حتى لم يبق أحد منهم غير علي (عليه السلام) وبعض خواصه.
ولما أخذ القوم مآربهم من البيعة أقبل عمر مع جمع من أصحابه، ووقفوا على باب دار علي (عليه السلام) وجعل يناديه ويدعوه إلى البيعة، فامتنع علي (عليه السلام) عن ذلك.
فدعا عمر بحطب ونار، وهو يقول: والذي نفس عمر بيده ليخرجن أو لأحرقنه على ما فيه.
فأنكر عليه ذلك بعض أصحابه، وقالوا له: إن فيه فاطمة وآثار رسول الله، وولداه، قال: وإن [١١] إلى آخر ما كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. راجع في شرح كل ذلك ما أشرنا إليه من كتب السير والتواريخ المفصلة المعدة لذلك، وكذا كتب أحاديث الفريقين مما لا يحتمله المقام.
[١] البحار ٢٨: ١٧٨ - ٢٢٣.
[٢] شرح نهج البلاغة ٢: ٣٧ وج ٦: ٥.
[٣] الإمامة والسياسة (لابن قتيبة) ١: ٢٣، تاريخ الطبري ٢: ٤٤٣، الكامل (لابن الأثير) ٢:
٣٢٥، السقيفة وفدك (الجوهري): ٥٩.
[٤] الاحتجاج (للطبرسي) ١: ٧١ - ٩٠، شرح أصول الكافي (للمازندراني) ١٢: ٨٨٤، إحقاق الحق ٢: ٣٤٤.
[٥] والمعروف أن أنس بن مالك ابتلي بالبرص، وذهب بصر زيد بن أرقم حين كتما الشهادة بحديث الغدير، راجع خلاصة عبقات الأنوار ٣: ٢٦١، شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد) ٤: ٧٤، أرجح المطالب: ٢١٦، المعارف (لابن قتيبة): ٥٨٠.
[٦] الحشر: ١٦.
[٧] بحار الأنوار ٢٨: ١٨٠ - ٢٠٣، الاحتجاج (للطبرسي) ١: ٧٠.
[٨] تفسير القرطبي ٧: ١٧٢، الإمامة والسياسة ١: ٣١، شرح نهج البلاغة (لابن أبي الحديد) ١:
١٦٩، شرح نهج البلاغة (للشيخ محمد عبده) ١: ٣٢، الاحتجاج (للطبرسي) ١: ٧٩، المسترشد (لمحمد بن جرير الطبري): ١٣٦، وانظر الرسائل العشر (للشيخ الطوسي): ١٢٣، كشف القناع (للبهوتي) ٦: ٢٠٣.
[٩] آل عمران: ١٤٤.
[١٠] الاحتجاج (للطبرسي) ١: ٧٩.
[١١] الأنساب (للبلاذري) ٢: ٢٦٨، الإمامة والسياسة ١: ٣٠، المسترشد (لمحمد بن جرير الطبري): ٢٢٤، العقد الفريد ٥: ١٣، كنز العمال ٥: ٦٥١ / 14138، الشافي (للسيد المرتضى) 3: 241، وأشار إليه في مروج الذهب 2: 301.