وفي الصحيحين (1) من حديث عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها كانت خولة (بنت حكيم) (2) من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت
(١) (الفتح الباري): ٩ / ٢٠٤ كتاب النكاح باب (٣٠) هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد؟ حديث رقم (٥١١٣) رواه أبو سعيد المؤدب ومحمد بن بشر وعبدة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها يزيد بعضهم على بعض.
وأخرجه البخاري أيضا في كتاب التفسير باب (٧) (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك) حديث رقم (٤٧٨٨) عن عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: اتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك) قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
قال الحافظ في (الفتح) وحكى الواحدي عن المفسرين أن هذه الآية نزلت عقب نزول آية التخيير وذلك أن التخيير لما وقع أشفق بعض الأزواج أن يطلقهن وقوله: (وهبن أنفسهن) هذا ظاهر في أن الواهبة أكثر من واحدة.
وعند ابن أبي حاتم من حديث عائشة: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم هي خولة بنت حكيم ومن طريق الشعبي قال: من الواهبات أم شريك. وأخرجه النسائي من طريق عروة. وعند أبي عبيدة معمر بن المثنى أن من الواهبات فاطمة بنت شريح. وقيل: إن ليلى بنت الحطيم ممن وهبت نفسها له ومنهن زينب بنت خزيمة جاء عن الشعبي وليس بثابت وخولة بنت حكيم وهو في هذا الصحيح ومن طريق قتادة عن ابن عباس قال: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم هي ميمونة بنت الحارث وهذا منقطع. وأورده من وجه آخر مرسل وإسناده ضعيف.
قوله: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) أي ما أرى الله إلا موجدا لما تريد بلا تأخير منزلا لما تحب وتختار. وقوله: (ترجي من تشاء منهن) أي تؤخرن بغير قسم وهذا قول الجمهور وأخرجه الطبري عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأبي رزين وغيرهم وأخرج الطبري أيضا عن الشعبي في قوله: (ترجي من تشاء منهن) قال: كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم ينكحهن وهذا شاذ والمحفوظ أنه لم يدخل بأحد من الواهبات كما تقدم.
وقيل: المراد بقوله: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) أنه كان هم بطلاق بعضهن فقلن له: لا تطلقنا وأقسم لنا ما شئت فكان يقسم لبعضهن قسما مستويا وهن اللاتي آواهن ويقسم للباقي ما شاء وهن اللاتي أرجاهن.
فحاصل ما نقل في تأويل (ترجي) أقوال: أحدها: تطلق وتمسك وثانيها: تعتزل من شئت منهن بغير طلاق وتقسم لغيرها ثالثها: تقبل من شئت من الواهبات وترد من شئت.
وحديث الباب يؤيد والذي قبله واللفظ محتمل للأقوال الثلاثة وظاهر ما حكته عائشة من استئذانه أنه لم يرج أحدا منهن بمعنى أنه لم يعتزل وهو قول الزهري ما العم أنه أرجأ أحدا من نسائه أخرجه ابن أبي حاتم وعن قتادة أطلق له أن يقسم كيف شاء فلم يقسم إلا بالسوية (فتح الباري): ٨ / ٦٧٣ - ٦٧٥.
(باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد) أي فيحل له نكاحها بذلك وهذا يتناول صورتين أحدهما مجرد الهبة من غير ذكر مهر والثانية: العقد بلفظ الهبة فالصورة الأولى ذهب الجمهور إلى بطلان النكاح وأجازه الحنفية والأوزاعي ولكن قالوا يجب مهر المثل وقال الأوزاعي إن تزوج بلفظ الهبة وشرط أن لا مهر لم يصح النكاح وحجة الجمهور قوله تعالى (خالصة لك من دون المؤمنين) فعدوا ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم وأنه يتزوج بلفظ الهبة بغير مهر في الحال ولا في المال وأجاب المجيزون عن ذلك بأن المراد أن الواهبة تختص به لا مطلق الهبة.
والصورة الثانية ذهب الشافعية وطائفة إلى أن النكاح لا يصح إلا بلفظ النكاح أو التزويج لأنهما الصريحان اللذان ورد بهما القرآن والحديث وذهب الأكثر إلى أنه يصح بالكنايات واحتج الطحاوي لهم بالقياس على الطلاق فإنه يجوز بصرائحه وبكناياته مع القصد.
قوله (حدثنا هشام) هو ابن عروة عن أبيه (قال: كانت خولة) هذا مرسل لأن عروة لم يدرك زمن القصة لكن السياق يشعر بأنه حمله من عائشة وقد ذكر المصنف عقب هذه الطريق رواية من صرح فيه بذكر عائشة تعليقا.
قوله: (بنت حكيم) أي ابن أمية بن الأوقص السلمية وكانت زوجعثمان بن مظعون وهي من السابقات إلى الإسلام وأمها من بني أمية.
قول (فقالت عائشة أما تستحي المرأة أن تهب نفسها) في رواية محمد بن بشر الموصولة عن عائشة أنها كانت تعير اللاتي وهبن أنفسهن.
قوله: فلما نزلت (ترجئ من تشاء) في رواية عبدة بن سليمان فأنزل الله ترجئ " وهذا أظهر في أن نزول الآية بهذا السبب قال القرطبي حملت عائشة على هذا التقبيح الغيرة التي طبعت عليها النساء وإلا فقد علمت أن الله أباح لنبيه ذلك وأن جميع النساء لو ملكن لرقهن لكان قليلا.
قوله: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) في رواية محمد بن بشر إني لأرى ربك يسارع لك في هواك أي في رضاك قال القرطبي هذا قول أبرزه الدلال والغيرة وهو من نوع قولها: ما أحمدكما ولا أحمد إلا الله وإلا فإضافة الهوى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تحمل على ظاهره لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يفعل بالهوى لو قالت إلى مرضاتك لكان أليق ولكن الغيرة يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك. (فتح الباري): 9 / 204 - 205.
(2) زيادة للسياق من (البخاري).