الأمر فيعلم مما ذكرنا شجاعة الشيخ الطوسي ودرايته في فتح باب الاجتهاد بمصراعيه على الشيعة في حزم بالغ مراعيا جانب الاحتياط والتدريج حتى يستوحشوا، ولا يتهموه بمتابعة أهل السنة والعمل بطريقة القياس. ولكن الشيخ الطوسي وإن عصمه الله من هذه الوصمة في عصره إلى أمد بعيد إلا أنه لم يبق بريئا إلى الأبد فقد جاء محمد بن أحمد بن إدريس المتوفى سنة 578 ه صاحب كتاب السرائر في القرن السادس أي بعد الشيخ بقرن فوجه نقوده إليه في هذا الكتاب بأنه اتخذ طريقة أهل السنة وأشاعها في الشيعة (118) وبعده جاءت الطائفة الأخبارية في القرن الحادي عشر فما بعده فزادوا في الطنبور نغمة أخرى ووجهوا حملاتهم إلى هذا الشيخ المبجل العظيم (119) هذا وفي نفس الوقت الذي شاع بين الشيعة الإمامية الفقه التفريعي الذي تحدثنا عنه، شاعت بينهم المقايسة والموازنة بين المذاهب الفقهية في المسائل التي كانت مثارا للاختلاف وتضارب الآراء. فاستحدث فن آخر من فنون الفقه كانوا يعبرون عنه ب " مسائل الخلاف " ونحن نعبر عنه ب " الفقه التطبيقي " قياسا على " الحقوق التطبيقي ".
ولا شك في أن الشيخ الطوسي كان سابق هذا الميدان في جميع فنون الفقه من بين معاصريه بل بين شيوخه وأساتذته وإن كتبه في ذلك، ولا سيما كتاب " النهاية " في الفقه المنصوص، وكتاب " المبسوط " في الفقه التفريعي، وكذلك كتاب " الخلاف " في الفقه التطبيقي لمن أحسن الكتب في تلك الفنون.
ثم إن أحد الفنون الفقهية التي ظهرت من خلال التفنن في الفقه وانشعابه إلى شعبات، هو إخراج أصول المسائل الفقهية بأقصر عبارة ممكنة مع مراعاة الترتيب والنظم، وإدراجها في فصول، وعقدها في عقود وتحت أرقام معينة لا بأس بأن نسميها ب " الفقه الكلاسيكي ". وللشيخ الطوسي فضل التقدم في ذلك أيضا، فإن كتابه " الجمل والقعود " حسب ما هو الظاهر من اسمه، والواضح من تقديم المصنف لهذا الكتاب ومما قاله في وصفه في مقدمة كتاب المبسوط، أنه كان يهدف إلى هذا الهدف، فإن الجمل والعقود تعني المطالب المعقودة في سلك خاص والمنتظمة بعضها مع بعض، ولعل هذا الكتاب هو الأول من نوعه والعمل المبتكر في موضوعه وقد بذل المؤلف أقصى جهده في تنظيم الأبواب وعقد المسائل وعد الواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والأجزاء والشرائط والآداب