ولو سلم فلنا أن نقول: إنه لا يعتبر في صحة العقوبة عند كافة العقلاء الاختيارية بالمعنى المدعى من كون الفعل اختياريا بجميع مبادئه، فإن صحة العقوبة من الأحكام العقلائية والمستصحات العقلية، وهذا حكم جار رائج بين جميع العقلاء في الأعصار والأدوار لا يشكون فيه، و [قد] يشكون في الشمس في رابعة النهار، مع أن الإرادة ليست بالإرادة، والاختيار ليس بالاختيار.
وليعلم: أن مجرد صدور الفعل عن علم وإرادة ليس موضوع حكم العقل لصحة العقوبة واستحقاق العقاب، ضرورة أن الحيوانات - أيضا - إنما [تفعل ما تفعل] بعلم وإرادة، ولو كانت إرادية الفعل موضوعا للاستحقاق للزم الحكم باستحقاق الحيوانات، فما هو الموضوع هو صدور الفعل عن الاختيار الناشئ عن تميز الحسن من القبيح.
والاختيار: عبارة عن ترجيح أحد جانبي الفعل والترك بعد تميز المصالح والمفاسد الدنيوية والأخروية، فإن الإنسان بعد اشتراكه مع الحيوان بأن أفعاله بإرادته وعلمه، يمتاز عنه بقوة التميز وإدراك المصالح الدنيوية والأخروية، وقوة الترجيح بينهما، وإدراك الحسن والقبح بقوته العقلية المميزة.
وهذه القوة مناط التكليف واستحقاق الثواب والعقاب، لا مجرد كون الفعل إراديا، كما ورد في الروايات: (أن الله لما خلق العقل استنطقه...) إلى أن قال: (بك أثيب، وبك أعاقب) (1) فالثواب والعقاب بواسطة العقل وقوة