مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحقيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل، ومنهم من يغرقها ومنهم من يذبحها، وهم كانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية، وتارة خوفا من الفقر والفاقة ولزوم النفقة، ثم إنه قال (ألا ساء ما يحكمون) وذلك لانهم بلغوا في الاستنكاف من النبت إلى أعظم الغايات، فأولها: أنه يسود وجهه، وثانيها: أنه يختفي عن القوم من شدة نفرته عن النبت، وثالثها: أن الولد محبوب بحسب الطبيعة، ثم إنه بسبب شدة نفرته عنها يقدم على قتلها، وذلك يدل على أن النفرة عن النبت والاستنكاف عنها قد بلغ مبلغا لا يزداد عليه. إذا ثبت هذا فالشئ الذي بلغ الاستنكاف منه إلى هذ 1 الحد العظيم كيف يليق بالعاقل أن ينسبه لإله العالم المقدس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات؟ ونظير هذه الآية قوله تعالى (ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى) (المسألة الثانية) قال القاضي: هذه الآية تدل على بطلان الجبر. لانهم يضيفون إلى الله تعالى من الظلم والفواحش ما إذا أضيف إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منه والتباعد عنه، فحكمهم في ذلك مشابه لحكم هؤلاء المشركين، ثم قال: بل أعظم، لان إضافة البنات إليه إضافة قبح واحد، وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله تعالى. فيقال للقاضي: إنه لما ثبت بالدليل استحالة الصاحبة والولد على الله تعالى أردفه الله تعالى بذكر هذا الوجه الإقناعي، والا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح من الله تعالى. ألا ترى أن رجلا زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهن ثم بالغ في تقوية الشهوة فيهم وفيهن، ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع فان هذا بالاتفاق حسن من الله تعالى وقبيح من كل الخلق، فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبينة على العرف، إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطيعة اليقينية، وقد ثبت بالبراهين القطعية امتناع الولد على الله فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الاقناعية. أما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل اليقينية القاطعة أن خالقها هو الله تعالى، فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لولا شدة التعصب؟ والله أعلم.
ثم قال تعالى (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى) والمثل السوء عبارة عن الصفة السوء وهي احتياجهم إلى الولد، وكراهتهم الإناث خوف الفقر والعار (ولله المثل الأعلى) أي الصفة العالية المقدسة، وهي كونه تعالى منزها عن الولد.
فان قيل: كيف جاء (ولله المثل الأعلى) مع قوله (فلا تضربوا لله الأمثال) قلنا: المثل الذي يذكره الله حق وصدق والذي يذكره غيره فهو الباطل، والله أعلم.