ثم أكد هذا التحذير فقال: * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) * يريد عرض الدنيا وإن كان كثيرا، إلا أن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون، يعني أنكم وإن وجدتم على نقض عهد الإسلام خيرا من خيرات الدنيا، فلا تلتفتوا إليه، لأن الذي أعهد الله تعالى على البقاء على الإسلام خير وأفضل وأكمل مما يجدونه في الدنيا على نقض عهد الإسلام إن كنتم تعلمون التفاوت بين خيرات الدنيا وبين خيرات الآخرة، ثم ذكر الدليل القاطع على أن ما عند الله خير مما يجدونه من طيبات الدنيا فقال: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) * وفيه بحثان:
البحث الأول: الحس شاهد بأن خيرات الدنيا منقطعة، والعقل دل على أن خيرات الآخرة باقية، والباقي خير من المنقطع، والدليل عليه أن هذا المنقطع إما أن يقال: إنه كان خيرا عاليا شريفا أو كان خيرا دنيا خسيسا، فإن قلنا: إنه كان خيرا عاليا شريفا فالعلم بأنه سينقطع يجعله منغصا حال حصوله، وأما حال حصول ذلك الانقطاع فإنها تعظم الحسرة والحزن، وكون تلك النعمة العالية الشريفة كذلك ينغص فيها ويقلل مرتبتها وتفتر الرغبة فيها، وأما إن قلنا: إن تلك النعمة المنقطعة كانت من الخيرات الخسيسة فهمنا من الظاهر أن ذلك الخير الدائم وجب أن يكون أفضل من ذلك الخير المنقطع، فثبت بهذا أن قوله تعالى: * (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) * برهان قاطع على أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا.
البحث الثاني: أن قوله: * (وما عند الله باق) * يدل على أن نعيم أهل الجنة باق لا ينقطع. وقال جهم بن صفوان: إنه منقطع والآية حجة عليه.
واعلم أن المؤمن إذا آمن بالله فقد التزم شرائع الإسلام والإيمان، وحينئذ يجب عليه أمران: أحدهما: أن يصبر على ذلك الإلتزام وأن لا يرجع عنه وأن لا ينقضه بعد ثبوته. والثاني: أن يأتي بكل ما هو من شرائع الإسلام ولوازمه. إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه، فقال: * (ولنجزين الذين صبروا) * أي على ما ألزموه من شرائع الإسلام * (بأحسن ما كانوا يعملون) * أي يجزيهم على أحسن أعمالهم، وذلك لأن المؤمن قد يأتي بالمباحثات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شك أنه على فعل المندوبات والواجبات يثاب لا على فعل المباحثات، فلهذا قال: * (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * ثم إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الثاني وهو الإتيان بكل ما كان من شرائع الإسلام فقال: * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) * وفي الآية سؤالات: