قوله تعالى * (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا) * اعلم أنه تعالى أمر بخمسة أشياء أولا، ثم أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي النهي عن الزنا، وعن القتل إلا بالحق، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ثم أتبعه بهذه الأوامر الثلاثة فالأول قوله: * (وأوفوا بالعهد) *.
واعلم أن كل عقد تقدم لأجل توثيق الأمر وتوكيده فهو عهد فقوله: * (وأوفوا بالعهد) * نظير لقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) * (المائدة: 1) فدخل في قوله: * (أوفوا بالعقود) * كل عقد من العقود كعقد البيع والشركة، وعقد اليمين والنذر، وعقد الصلح، وعقد النكاح. وحاصل القول فيه: أن مقتضى هذه الآية أن كل عقد وعهد جرى بين إنسانين فإنه يجب عليهما الوفاء بمقتضى ذلك العقد والعهد، إلا إذا دل دليل منفصل على أنه لا يجب الوفاء به فمقتضاه الحكم بصحة كل بيع وقع التراضي به وبصحة كل شركة وقع التراضي بها، ويؤكد هذا النص بسائر الآيات الدالة على الوفاء بالعهود والعقود كقوله: * (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) * (البقرة: 177) وقوله: * (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) * (المؤمنون: 8) وقوله: * (وأحل الله البيع) * (البقرة: 275) وقوله: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * (النساء: 29) وقوله: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * (البقرة: 282) وقوله عليه السلام: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة من نفسه " وقوله: " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد " وقوله: " من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه " فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أن الأصل في البيوعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام.
إذا ثبت هذا فنقول: إن وجدنا نصا أخص من هذه النصوص يدل على البطلان والفساد قضينا به تقديما للخاص على العام، وإلا قضينا بالصحة في الكل، وأما تخصيص النص بالقياس فقد أبطلناه، وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملات على طولها وأطنابها مضبوطة معلومة بهذه الآية الواحدة، ويكون المكلف آمن القلب مطمئن النفس في العمل، لأنه لما دلت هذه النصوص على صحتها فليس بعد بيان الله بيان، وتصير الشريعة مضبوطة معلومة.