أن الإله واحد وثبت أن المتكلم بهذا الكلام إله، فحينئذ ثبت إنه لا إله للعالم إلا المتكلم بهذا الكلام، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور، ويقول: * (فإياي فارهبون) * وفيه دقيقة أخرى وهو أن قوله: * (فإياي فارهبون) * يفيد الحصر، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه، وأن لا يرغبوا إلا في فضله وإحسانه، وذلك لأن الموجود إما قديم وإما محدث، أما القديم الذي هو الإله فهو واحد، وأما ما سواه فمحدث، وإنما حدث بتخليق ذلك القديم وبإيجاده، وإذا كان كذلك فلا رغبة إلا إليه ولا رهبة إلا منه، فبفضله تندفع الحاجات وبتكوينه وبتخليقه تنقطع الضرورات.
ثم قال بعده: * (وله ما في السماوات والأرض) * وهذا حق، لأنه لما كان الإله واحدا، والواجب لذاته واحدا، كان كل ما سواه حاصلا بتخليقه وتكوينه وإيجاده، فثبت بهذا البرهان صحة قوله: * (وله ما في السماوات والأرض) * واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، لأن أفعال العباد من جملة ما في السماوات والأرض، فوجب أن تكون أفعال العباد لله تعالى، وليس المراد من كونها لله تعالى أنها مفعولة لله لأجله ولغرض طاعته، لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة، لا لغرض الطاعة، فوجب أن يكون المراد من قولنا إنها لله أنها واقعة بتكوينه وتخليقه وهو المطلوب.
ثم قال بعده: * (وله الدين واصبا) * الدين ههنا الطاعة، والواصب الدائم. يقال: وصب الشيء يصب وصوبا إذا دام، قال تعالى: * (ولهم عذاب واصب) * (الصافات: 9) ويقال: واظب على الشيء وواصب عليه إذا داوم، ومفازة واصبة أي بعيدة لا غاية لها. ويقال للعليل واصب، ليكون ذلك المرض لازما له. قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع، إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو بالموت إلا الحق سبحانه، فإن طاعته واجبة أبدا.
وأعلم أن قوله (واصبا) حال، والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل. وأقول: الدين قد يعنى به الانقياد. يقال: ما من دانت له الرقاب أي انقادت. فقوله (وله الدين واصبا) أي انقياد كل ما سواه له لازم أبدا. لان انقياد غيره له معلل بأن غيره ممكن لذاته، والممكن لذاته يلزمه أن يكون محتاجا إلي السبب في طرف الوجود والعدم. والماهيات يلزمها الامكان لزوما ذاتيا، والامكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوما ذاتيا. ينتج أن الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثر لزومها ذاتيا. فهذه الماهيات موصوفة بالانقياد لله تعالى اتصافا دائما واجبا لازما ممتنع التغير. وأقول: في الآية دقيقة أخرى، وهي أن العقلاء اتفقوا على أن الممكن حال حدوثه محتاج إلى السبب المرجح. واختلفوا في الممكن حال بقائه هل هو محتاج إلى السبب؟ قال المحققون: إنه محتاج لأن علة الحاجة هي