فإن قيل: هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة، فكيف يليق بهذا الموضع قوله: * (وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابا أليما) *.
قلنا عنه جوابان: أحدهما: أن أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين، والثاني: أن بعضهم قال: * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) * (آل عمران: 24) فهم في هذا القول صاروا كالمنكرين للآخرة، والله أعلم.
قوله تعالى * (ويدع الإنسان بالشر دعآءه بالخير وكان الإنسان عجولا) * وفي الآية مباحث:
البحث الأول: اعلم أن وجه النظم هو أن الإنسان بعد أن أنزل الله عليه القرآن وخصه بهذه النعمة العظيمة والكرامة الكاملة، قد يعدل عن التمسك بشرائعه والرجوع إلى بياناته، ويقدم على ما لا فائدة فيه فقال: * (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير) *.
البحث الثاني: اختلفوا في المراد من دعاء الإنسان بالشر على أقوال:
القول الأول: المراد منه: النضر بن الحرث حيث قال: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) * (الأنفال: 32) فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته، فكان بعضهم يقول: ائتنا بعذاب الله. وآخرون يقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. وإنما فعلوا ذلك للجهل واعتقاد أن محمدا كاذب فيما يقول.
والقول الثاني: المراد أنه في وقت الضجر يلعن نفسه وأهله وولده وماله، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا فأقبل يئن بالليل فقالت له: ما لك تئن؟ فشكى ألم القيد فأرخت له من كتافه، فلما نامت أخرج يده وهرب، فلما أصبح النبي عليه الصلاة والسلام دعا به فأعلم بشأنه، فقال عليه الصلاة والسلام: " اللهم اقطع يدها " فرفعت سودة يدها تتوقع أن يقطع الله يدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني سألت الله أن يجعل دعائي على من لا يستحق عذابا من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما تغضبون، فلترد سودة يدها ".
والقول الثالث: أقول: يحتمل أن يكون المراد: أن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلبا لشيء يعتقد أن خيره فيه، مع أن ذلك الشيء يكون منبع شره وضرره، وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء، وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه عجولا مغترا بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها.